للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الحياة الفكرية والعلمية من بداية الدولة الحسينية إلى عهد حسين بن علي الثاني:

لقد كانت بحق بداية الدولة الحسينية موعدًا لإقامة سوق العلم ونفاقها، ونشر المعرفة وإعادة النشاط الثقافي والفكري للبلاد. فالبرغم من انقطاع المدارس القديمة والمساجد وجامع الزيتونة الأعظم في مقدمتها عن الدور العلمي الكبير الذي اضطلعت به إلى أوائل المائة العاشرة (١) ، ورغم ما لحق خزائن العبدلية والجامع الأعظم من عبث بالكتب القيمة التي لم تكن تقل عن ستة وثلاثين ألف مجلد عاث بها الإسبان فسادًا وداسوها بسنابك خيلهم وألقوها خارج المسجد الجامع وأتلفوها، ورغم ارتباك الأحوال ومكابدة أهل تونس وسائر مدن القطر المصائب والأهوال التي حملت أكثر العلماء وذوي القدر على الهجرة إما إلى المشرق وإما إلى المغرب، وما تبع ذلك في أواخر دولة بني مراد من فتن متتالية وأوبئة متعاقبة فإن بقية باقية من أهل العلم بتونس العاصمة وبآفاق البلاد كانت ما تزال تضطلع بدورها عند مبايعة حسين بن علي تركي. ومن أبرز هؤلاء:

الشيخ المقري المحدث والفقيه المتكلم أبو الحسن علي بن سالم بن محمد النوري. ١٠٥٣ - ١١١٨ بصفاقس. كان تخريجه على مرحلتين الأولى ببلده أخذ عن الشيخ الكراي الصوفي المربي، والثانية بتونس حيث التحق بالمدرسة المنتصرية والشماعية وأخذ عن عدد من الشيوخ مثل عاشور القسطنطيني وسليمان الأندلسي ومحمد القروي وأثنى عليهم. ولما أراد الاستزادة من العلم واستكمال ما يتطلع إليه من المعارف توجه إلى القاهرة. فلقي هنالك المسند أبا إسحاق المأموني الشافعي والشيخ أحمد السنهوري المالكي والمحقق أبا بكر الشنواني وشيخ الشيوخ محمد بن محمد بن ناصر الدرعي وغيرهم كما أخذ عن الخرشي والشبرخيتي، وعمن لقي هناك من علماء المغرب مثل الشيخ الشاوي الجزائري والشيخ الإفراني المغربي فتضلع بالعلوم الشرعية واللسانية. وله في ذلك فهرست تضمنت أسماء الكتب التي قرأها على شيوخه وفنون العلم التي أخذها عنهم. وهي ثبت علمي لذلك العصر. وعند عودته إلى صفاقس أحيا العلوم القرآنية والحديثية، وأخذ عنه ابنه أحمد ومحمد المؤدب الشرفي وأبو الحسن المؤخر وعلي بن خليفة المساكني ومحمد الجمل والحركافي وأحمد العجمي المكني. ومن مصنفاته الشهيرة: غيث النفع في القراءات السبع، وتنبيه الغافلين وإرشاد الجاهلين عما يقع لهم من الخطأ خلال تلاوتهم لكتاب الله المبين، والعقيدة النورية في معتقد السادة الأشعرية، ومعين السائلين من فضل رب العالمين، ومقدمة في الفقه، ومناسك الحج، والمنقذ من الوحلة في معرفة السنين وما فيها من الأوقات والقبلة، ورسالة في الكلام عن مسألتين تتعلقان بالسماع، وإجازة، ووصية، وفتاوى مشهورة.


(١) من المدارس القديمة بالعاصمة التونسية قبل الدولة الحسينية: (الشماعية: ٦٣٣؛ والتوفيقية: ٦٥٠؛ والعصفورية: ٦٦٦؛ والمرجانية: ٦٩٦؛ والمغربية في المائة السابعة، والعنقية: ٧٣٣؛ ومدرسة سيدي يحيى: ٧٤٧؛ والمنتصرية: ٨٤١؛ والأندلسية: ١٠٣٤؛ والبكرية أوائل القرن الحادي عشر؛ والمرادية: ١٠٨٤؛ ومدرسة القائد مراد: ١١٩٣؛ واليوسفية: ١١٢٢.) ومحمد ابن الخوجة، معالم التوحيد: ص٢٨٢ - ٢٨٣. وأما المساجد والجوامع فهي كثيرة جدًّا وقد تنوعت الثانية منها إلى جوامع خطبة للمالكية وأخرى للحنفية، وأقدم الجوامع بمدينة تونس جامع الزيتونة، وأحدثها في العصر الحسيني من بدايته إلى نهاية إمارة حسين بن محمود: الجامع الجديد المعروف اليوم بجامع الصباغين تأسيس حسين بن علي تركي ١١٣٩، وجامع صاحب الطابع، تأسيس الوزير يوسف صاحب الطابع ١٢٢٩، وقد كان أكثرها محل تدريس للعلم أو مقرًّا لمجالس الوعظ للعامة، والمساجد التي كان يؤم الناس في الصلاة بها عدد غير قليل من العلماء بالسكنى، والتي اشتهرت أحيانًا بنسبتها إليهم، كمسجد ابن حبيش الذي كان في باب سويقة وقد اندثر اليوم، كانت كما صرح بذلك ابن رشيد في رحلته، الجزء الثاني والخامس، إلى جانب دورها الأصلي وهو كونها محل عبادة مقرًّا لمجالس العلم التي يلتقي فيها الطلاب بأشياخهم للسماع منهم، أو للرواية والأخذ عنهم، وهذا أمر شائع بديارنا منذ العهود الإسلامية الأولى لا في خصوص ما يوجد من تلك المساجد والجوامع بالحاضرة بل بعامة ما هو مشهور أو مقصود منها في مدن البلاد التونسية، راجع في ذلك رحلات البلوي والعبدري وابن رشيد. محمد ابن الخوجة، معالم التوحيد.

<<  <  ج: ص:  >  >>