للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

حكم بيع الوفاء عند فقهاء الحنفية:

اضطربت آراء فقهاء الحنفية في حكم بيع الوفاء. وذكر ابن نجيم في البحر الرائق، وابن البزاز الكردي في الفتاوى البزازية أن لفقهاء الحنفية في بيع الوفاء ثمانية آراء. [راجع لتفصيل تلك الآراء: البحر الرائق: ٦/٨ و ٩؛ والفتاوى البزازية على هامش الهندية: ٤/٤٠٥؛ وجامع الفصولين: ١/٢٣٤] . لكن العمدة في بيع الوفاء أربعة أقوال.

الأول: قال بعض الفقهاء أنه رهن في الحقيقة، لا يملكه (أي المشتري) ولا ينتفع به إلا بإذن مالكه (١) ، وللبائع استرداده إذا قضى دينه، لا فرق بينه وبين الرهن في حكم من الأحكام، لأن المتعاقدين وإن سمياه البيع، ولكن عرفهما الرهن والاستيثاق بالدين، إذا العاقد يقول لكل أحد بعد هذا العقد: رهنت ملكي فلانًا، والمشتري يقول: ارتهنت ملك فلان، والعبرة في التصرفات للمقاصد والمعاني، لا للألفاظ والمباني، فإن الحوالة بشرط أن لا يبرأ كفالة والكفالة بشرط البراءة حوالة. وهذا هو مذهب الإمام الحسن الماتريدي، والسيد أبي شجاع وابنه، والإمام علي السغدي (٢) .

الثاني: أنه بيع غير صحيح، واختاره صاحب الهداية وأولاده أعني لا يملك المشتري عندهم بيعه من الغير كما في بيع المكره، لا كالبيع الفاسد بعد القبض (٣) .

الثالث: ما اختاره قاضيخان وهو من طبقة المجتهدين في المسائل عند الأحناف، فقال:

(والصحيح أن العقد الذي جرى بينهما إن كان بلفظ البيع لا يكون رهنًا، ثم ينظر إن ذكرا شرط الفسخ في البيع فسد البيع وإن لم يذكرا ذلك في البيع وتلفظا بلفظة البيع بشرط الوفاء، أو تلفظا بالبيع الجائز، وعندهما هذا البيع عبارة عن عقد غير لازم فكذلك، وإن ذكرا البيع من غير شرط، ثم ذكرا الشرط على وجه المواعدة، جاز البيع، ويلزمه الوفاء بالوعد لأن المواعدة قد تكون لازمة فتجعل لازمة لحاجة الناس) (٤) .

الرابع: القول الجامع لبعض المحققين أنه فاسد في حق بعض الأحكام، حتى ملك كل منهما الفسخ، صحيح في حق بعض الأحكام، كحل الإنزال ومنافع المبيع، ورهن في حق البعض، حتى لم يملك المشتري بيعه من آخر ولا رهنه، وسقط الدين بهلاكه، فهو مركب من العقود الثلاثة، جوز لحاجة الناس إليه، بشرط سلامة البدلين لصاحبهما. قال ابن نجيم:

(وينبغي أن لا يعدل في الإفتاء عن القول الجامع) (٥) .

والذي نراه أن القول الثالث والرابع لا يتنافيان، بل يجتمعان في أن القول الثالث يبين كيفية صحة هذا العقد، والقول الرابع يبين الأحكام التي تنبني على صحة هذا العقد.


(١) قلت: هكذا ذكره ابن قاضي سماوة في جامع الفصولين: ١/٢٣٤؛ وابن عابدين في رد المحتار: ٥/٢٧٦ مطلقًا، ولكن المتأخرين من الحنفية لم يبيحوا انتفاع المرتهن بالمرهون، وإن كان بإذن الراهن، لأن العرف قد جرى بالانتفاع بالرهن، والمعروف كالمشروط. ولذلك ذكر ابن عابدين نفسه في رد المحتار في كتاب الرهن أنه لا يحل للمرتهن ذلك ولو بالإذن، لأنه ربا. [راجع رد المحتار: ٦/٤٨٢، ٦/٥٢٢] .
(٢) الفتاوى البزازية: ٤/٤٠٥؛ وجامع الفصولين: ١/٢٣٤؛ ورد المحتار: ٥/٢٧٦.
(٣) راجع الهداية وشروحها من العناية والكفاية وفتح القدير، كتاب الإكراه.
(٤) الفتاوى الخانية بهامش الهندية: ٢/١٦٥.
(٥) البحر الرائق: ٦/٩؛ ورد المحتار: ٥/٢٧٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>