للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد يكون مرد القائلين بأولوية ترك التداوي إلى ما عهدوه في عصرهم حيث كان التداوي بالوسائل البدائية والطرق التقليدية التي لم تصل إلى مستوى يثق به الناس، بل أغلبها كانت ظنية، لذا جاء التردد عنهم في الأخذ بها وكذا ما ورد عن بعض السلف في تركه التداوي يعود إلى ظنه أنه وصل إلى مرحلة لا تجدي معها الأدوية (١) ، أو لعلمه أن هذا المرض لم يصل فيه الطب بعد إلى دواء ناجح، أو تحمل أقوالهم على أنها قيلت كرد على من اعتقد الشفاء في الأدوية وعلق قلبه بها، وتناسى الشافي الحقيقي وهو الله فجاءت أقوالهم تذكيرًا لأمثال هؤلاء أو قد يكون هذا التارك للتداوي متألمًا لذنوبه أكثر من تألم بدنه بالمرض.

وها هو الرسول صلى الله عليه وسلم في كمال التوكل على الله، لم يقدح في توكله تعاطيه الأسباب، فقد ظاهر بين درعين، ولبس على رأسه المغفر، وخندق حول المدينة.. وتعاطى أسباب الأكل والشرب وادخر لأهله قوتهم، ولم ينتظر أن ينزل عليه من السماء وهو أحق الخلق أن يحصل له ذلك.

فبين بسنته القولية والفعلية أن الاحتراز لا يدفع التوكل.

ونجد الأمر بالتداوي والمحافظة على الدين واضحًا في قوله صلى الله عليه وسلم تداووا لما فيه من الأخذ بالأسباب واقتداء به صلى الله عليه وسلم ويتأكد الأمر أكثر في حق من يقومون على مصالح العباد.

ولذا قال المباركفوري بعد إيراده الحديث (تداووا) فيه إثبات الطب والعلاج وأن التداوي مباح غير مكروه كما ذهب إليه بعض الناس، ونقل عن العيني قوله: فيه إباحة التداوي وجواز الطب وهو رد (٢) على الصوفية: أن الولاية لا تتم إلا إذا رضي بجميع ما نزل به من البلاء ولا يجوز له مداواته، وهو خلاف ما أباحه الشارع، إذ إنه لم يخلق داء إلا وضع له شفاء أو دواء، وإنزال الدواء أمارة جواز التداوي، وفي حديث زيد بن أرقم قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتداوى من ذات الجنب بالقسط البحري والزيت (٣) .


(١) انظر الفتاوى الكبرى الفقهية، للهيثمي: ٤/١٠٩.
(٢) بتصرف من فتح الباري: ١٠/١٣٥، ١٣٦، ١٥٥؛ والطب النبوي والعلم الحديث: ٣/١٨؛ ونيل الأوطار: ٨/٢٠٩.
(٣) تحفة الأحوذي: ٦/١٩٠، ٣٥٢؛ وانظر الفواكه الدواني: ٢/٤٤٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>