للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واختلف المفسرون، فقال بعضهم: الآية منسوخة، وقال قوم: إنها غير منسوخة. وقد اعتبر الذين قالوا إن آية منع قتال المسالمين غير منسوخة هم الأكثرية" (١) ، وجاء في الهداية: "ولا يقتصر الحكم على المدة المروية (٢) لتعدي المعنى إلى ما زاد عليها" (٣) . قال الكمال بن الهمام في شرحه على الهداية: "وبهذا يندفع ما نقل عن بعض العلماء من منعه أكثر من عشر سنين وإن كان الإمام غير مستظهر وهو قول الشافعي، ولقد كان في صلح الحديبية مصالح عظيمة، فإن الناس لما تقاربوا انكشف ما سن الإسلام للذين كانوا متباعدين لا يعقلونها من المسلمين لما قاربوهم وتخالطوا بهم". (٤)

والخلاف بين من يقول بجواز الصلح الدائم، ومن يقول بعدم جوازه، هو الخلاف في أساس العلاقات الدولية في الإسلام، هل هو السلم أو الحرب، فمن قال هو السلم أجاز المعاهدة الدائمة، ومن قال هو الحرب منع المعاهدة الدائمة. علمًا بأن قومًا قالوا بعدم جواز المعاهدة أصلًا مستشهدين بقوله تعالى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (٥) .

وهذا مدفوع بما ذكرناه من آيات السلم وفعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والأوضاع الدولية في أيامنا هذه، واختلاف الزمان والأحوال يجعلنا نميل إلى اعتبار السلم هو أساس العلاقات الدولية وإلى جواز المعاهدات الدائمة ما كانت خيرًا للإسلام والمسلمين.

ويشترط للمعاهدة الدائمة أن لا تكون مع مشركي العرب فإنه لا يقبل إلا الإسلام أو السيف، بقوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} (٦) .

وقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} (٧) .

أما أهل الكتاب فالمعاهدة معهم جائزة على أساس دفع الجزية، ويلحق بهم المجوس "والفرق بين مشركي العرب ومشركي العجم أن مشركي العجم (ومثلهم أهل الكتاب) إنما تركوا بالذمة وقبول الجزية لا لرغبة في أن يؤخذ منهم أو طمع في ذلك، بل الدعوة إلى الإسلام، ليخالطوا المسلمين فيتأملوا في محاسن الإسلام وشرائعه، وينظروا فيها فيروها مؤسسة على ما تحتمله العقول وتقبله فيدعوهم ذلك إلى الإسلام، فيرغبون فيه، فكان عقد الذمة لرجاء الإسلام، وهذا المعنى لا يحصل بعقد الذمة لمشركي العرب" (٨) . ونقول بأن هذا الشرط لا معنى له في أيامنا هذه، وقد انتهى الشرك من جزيرة العرب، ومن العرب، وإن كان حل محله الإلحاد، ولذلك نقول: لا معاهدة مع عرب ملاحدة، ولا يقبل منهم إلا الإسلام، أو السيف، لما مر معنا من الآيات.


(١) مقدمة طبعة جامعة القاهرة، لكتاب السير الكبير: ص ٥
(٢) أي مدة السنين العشر في صلح الحديبية
(٣) الهداية، للمرغيناني: ٢/ ١٠٣
(٤) شرح فتح القدير: ٥/ ٢٠٥
(٥) سورة آل عمران: الآية ١٣٩، وانظر: كتاب الشريعة الإسلامية، والقانون الدولي لعلي علي منصور: ص ٣٧٨
(٦) سورة الفتح: الآية ١٦
(٧) سورة التوبة: الآية ٥
(٨) بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، لأبي بكر علاء الدين الكاساني: ٩/ ٤٣٢٩

<<  <  ج: ص:  >  >>