للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن قدامة في المغني: "وإذا دخل حربي دار الإسلام بأمان فأودع ماله مسلمًا أو ذميًّا أو أقرضهما إياه، ثم عاد إلى دار الحرب، نظرنا فإن دخل تاجرًا أو رسولًا أو متنزهًا أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام فهو على أمانه في نفسه وماله؛ لأنه لم يخرج عن نية الإقامة في دار الإسلام فأشبه الذمي لذلك، وإن دخل مستوطنًا بطل الأمان في نفسه وبقي في ماله؛ لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان ثبت الأمان في ماله الذي معه، فإذا بطل الأمان في نفسه بدخوله دار الحرب بقي في ماله، لاختصاص المبطل بنفسه فيختص البطلان به" (١) .

وإذا كان هذا هو موقف الفقه الإسلامي من المستأمن وماله فإن التشريعات الدولية الوضعية كانت قبل القرن الثامن عشر تبيح للدول اعتقال رعايا العدو الموجودين في إقليمها بمجرد قيام الحرب، وتحجزهم كأسرى حرب، كما كانت تصادر أموالهم، ثم جنحت تلك التشريعات إلى منع أسر رعايا العدو، وكذلك إلى منع مصادرة أمولهم، ولكن ظل القانون الدولي يجيز طرد رعايا العدو من إقليم الدولة بمجرد نشوب الحرب، وإن لم تكن هناك جريرة منهم. (٢) .

والمستأمن الذي يتمتع بحريته في التنقل في دار الإسلام، وممارسة نشاطه الذي وفد من أجله، كما يتمتع بحرمة ماله يخضع لأحكام الشريعة فيما يتعلق بالمعاملات المالية، سواء جرت هذه المعاملات بينه وبين مسلم أو بينه وبين ذمي، أو مستأمن مثله، وهذا لا خلاف فيه بين الفقهاء.

أما ما يتعلق بالحدود فقد اختلف فيه الفقهاء، فيرى بعضهم إقامة جميع الحدود عليه (٣) . ويذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنه لا يقام من الحدود على المستأمن إلا ما فيه من حق العباد، وذلك لأنا ندبنا إلى معاملته معاملة تحمله على الدخول في دارنا ليرى محاسن الإسلام فيسلم، وهو بالأمان التزام حقوق العباد، فالتزم أن يُنْصِفَهم كما يُنْصَف وأن لا يُؤْذِيَ أحدًا كما لا يُؤْذَى.

وأما حقوق الله فلا تلزم؛ لأنه لم يلتزمها، ألا ترى أنه لم يضرب عليه الجزية، ولم يمنع من رجوعه إلى دار الحرب (٤) .

والرأي الذي أخذ به جمهور الفقهاء هو عدم التفريق بين حقوق الله وحقوق العباد وأن المستأمن يخضع لأحكام الشريعة في جميع الحدود، وهذا الرأي أكثر اتساقًا مع المبادئ الإسلامية، لأنه يتفق مع ما ينبغي أن تكون أمور الدولة من منع الفساد وكمال السيادة على كل من يقيم في ربوعها. (٥) .

على أن رأي أبي حنيفة في عدم تطبيق الحدود الشرعية على المستأمن والمستأمنة إلا حد القذف كان سندًا للامتيازات الخاصة للأجانب في عصر الاحتلال، وكم جرت هذه الامتيازات على المسلمين من نكبات (٦) .


(١) المغني: ١٠/ ٤٣٧، طبعة المنار
(٢) انظر آثار الحرب في الفقه الإسلامي، للدكتور وهبة الزحيلي: ص ٥٠٧ ـ ٥١٠، طبعة دمشق
(٣) انظر الأم، للشافعي: ٧/ ٣٢٥، ٣٢٦، طبعة مصورة عن طبعة بولاق
(٤) انظر تبيين الحقائق، للزيعلي: ٣/ ١٨٢، طبعة القاهرة
(٥) انظر العلاقات الدولية في الإسلام: ص ٧١
(٦) انظر التشريع الجنائي الإسلامي مقارنًا بالتشريع الوضعي، للأستاذ عبد القادر عودة: ١/ ٢٨٥، طبعة التراث بالقاهرة

<<  <  ج: ص:  >  >>