للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

خامسًا ـ احترام العهود والوفاء بها:

للعهود والمواثيق في الإسلام حرمة مقدسة، يجب احترامها، وعدم التفريط فيها، والنصوص في ذلك كثيرة يمكن الاجتزاء منها بقوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} (١) .

هذا النص القرآني الكريم يحتم الوفاء بالعهد وعدم نقضه، ويحذر من الخديعة والدخل في المواثيق، أي اتخاذها ذريعة للغش والغدر والمكر، ويشبه الذين يعقدون العهد ثم ينقضونه بالحمقاء التي تغزل غزلًا محكمًا وبعد ذلك تنقضه، وفي هذا إشارة إلى أن نقض العهد لا يفعله إلا الحمقى ويومئ النص إلى أن الرغبة في زيادة الأرض أو القوة لا يصح أن يكون شيء من هذا سببًا لنقض العهد، فالعدالة الإسلامية لا تجعل مصلحة الدولة سبيلًا لنقض العهد ما دامت شروطه مصونة من قبل الأعداء، ولذلك يحذر القرآن الكريم من نقض العهد حين يستنصر المسلمون إخوانهم ليجاهدوا معهم في الدين فإن عليهم أن يحترموا ما بينهم وبين غيرهم من مواثيق {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} (٢) .

ولم تكن هذه المبادئ القومية في رعاية العهود مُثلًا نظرية، وإنما كانت سلوكًا واقعيًا في حياة المسلمين وفي صِلاتهم الدولية، ومن ذلك ما جاء عن حذيفة بن اليمان قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أنني خرجت أنا وأبو الحسيل، فأخذنا كفار قريش، فقالوا: إنكم تريدون محمدًا، فقلنا ما نريده وما نريد إلا المدينة فأخذوا منا عهد الله وميثاقه لننطلق إلى المدينة ولا نقاتل مع محمد فأتينا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأخبرناه الخبر فقال: ((انصرفا..نفي بعهودهم ونستعين بالله عليهم)) .

قال أبو رافع مولى رسول الله: ((بعثتني قريش إلى النبي، فلما رأيت النبي وقع في قلبي الإسلام فقلت، يا رسول الله لا أرجع إليهم، قال: إني لا أخيس العهد ولا أحبس البرد ولكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع)) (٣) .

وبعد، فهذه في إجمال أصول العلاقات الدولية في الإسلام، وهي أصول لُحمتها وسداها الإخاء الإنساني، والسلام العالمي، والتعاون الدولي وهي وحدها التي تكفل للبشرية الحياة الآمنة المطمئنة، الحياة التي تجدر بالإنسان الذي كرمه خالقه، وجعله خليفة في الأرض، واسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة.


(١) سورة النحل: الآيتان ٩١، ٩٢
(٢) سورة الأنفال: الآية ٧٢
(٣) انظر مجلة "المسلمون" شوال سنة ١٣٧٢هـ: ص ٢٣

<<  <  ج: ص:  >  >>