للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بهذه الروح الواعية لمبدأ السلام والمحققة له في حياة الناس انطلق قادة الفتوح الإسلامية فمع مواجهتهم لأقوام استعبدوا الناس بالباطل، وطغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد كان تطبيقهم العملي في ميادين الجهاد محافظًا على مبدأ السلام وآثاره في حياة الناس ونستطيع أن نقدم دليلًا على ذلك من واقع التاريخ الإسلامي ومن تطبيقات الخلفاء الراشدين وهم خير سلف هذه الأمة وأصفاهم فهمًا لحقيقة ما قرره الإسلام من مبادئ.

فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه وهو خليفة الرسول صلى الله عليه وسلم وقف في جيش أسامة خطيبًا فقال: "أيها الناس، أوصيكم بعشر فاحفظوها عني: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلًا صغيرًا ولا شيخًا كبيرًا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلًا ولا تحرقوه ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له وسوف تقدمون على قوم يأتونكم بآنية فيها ألوان الطعام، فإذا أكتلم شيئًا بعد الشيء فاذكروا اسم الله عليه، وتلقون أقوامًا قد فحصوا أوساط رؤسهم وتركوا حولها مثل العصائب فاخفقوهم بالسيف خفقًا.. اندفعوا باسم الله". (١) .

والاستشهاد بأقوال القادة وقت الحرب خير دليل على فهم هؤلاء القادة لمفهوم السلام، فقد يكون التعبير عن مفهوم السلام من غير وقت اللقاء مع الأعداء مشوبًا بكثير من الادعاء والظهور في صورة مثالية، أما الوصية من القائد إلى جنده عند اللقاء، وامثال الجند لمجموعة من المبادئ والقيم التي تمثل مفهوم السلم في أحلى صوره فإنه دليل على عمق هذا المفهوم وتأصله في النفوس. ومن هنا نقول أن القادة المسلمين يجعلون مبادئ السلام وثيقة الارتباط بدينهم فلا تنازل عنها في أي وقت من الأوقات، وأن القتال في الإسلام ـ كما سينجلي لنا في مباحثه ـ ليس إلا تدعيمًا لهذا الأصل العظيم الذي أسس الإسلام حياة الناس عليه. فالفاتحون دعاة إلى الله يستهدفون هداية الناس إلى الحق ويزيحون العوائق من طريق الشعوب، ويخرجون الناس من عبادة الحكام إلى عبادة الرحمن، ومن ظلم الحكام إلى عدل الإسلام، ويبذلون في سبيل ذلك أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، ولذلك فإن صلاحهم مستمر في لقائهم مع عدوهم فلا خيانة، ولا غلول ولا غدر، ولا يقاتلون إلا المقاتلة فلا قتل لطفل صغير ولا لشيخ كبير ولا امرأة. وإذا قوتل المقاتلة فلا تمثيل. وفتحهم للعمارة والنماء فلا عقر لنخل ولا إحراقه ولا قطع لشجرة مثمرة ولا ذبح لشاة ولا بقرة ولا بعير إلا للأكل. وهكذا يتجلى في توجيهات أبي بكر رضي الله عنه لجيش أسامة رضي الله عنه امتداد مفهوم السلم ليكون مستمرًا في جميع الأحوال ,وأن هذا المعنى إذا كان يحقق عند لقاء العدو فإنما لكونه مرتبطًا بعقيدة المسلم الذي ينطلق في أمره كله باسم الله سبحانه واستجابة لأمره ونهيه، وأما لدى غير المسلمين فإن أوقات الحروب تستباح فيها الأنفس ويمتهن معها كل معنى كريم.

ويمتد هذا المعنى للسلام ليجد التطبيق لدى القادة المسلمين قديمًا وحديثًا وإذا كنا أعطينا مثالًا لتوجيهات أول الخلفاء الراشدين فهذا ـ كذلك ـ القائد المسلم صلاح الدين الأيوبي يحقق هذا المفهوم بعد أن استعاد بيت المقدس من أيدي الصليبيين بعد تسعين سنة من مجزرة الصليبيين الذين استولوا على بيت المقدس في ١٥/ ٧/ ١٠٩٩م فذبحوا سبعين ألف مسلم ولم يرحموا الشيوخ ولا الأطفال ولا النساء في مذبحة استمرت ثلاثة أيام، ولم تنته إلا بعد إجهادهم من القتل، وحطموا رؤوس الصبيان على الجدران، وألقوا الأطفال الرضع من أسوار المعاقل والحصون، وشووا الرجال على النار، وبقروا بطون الحوامل ليروا هل ابتلع أهلها الذهب؟

ـ بعد هذه المجزرة لم يعامل صلاح الدين الصليبيين بالمثل. فلما سلمت له الحامية النصرانية أمنهم على حياتهم، وكانوا أكثر من مائة ألف وأعطاهم مهلة للخروج في سلام، لم يقتل أحد منهم بعد أن بذل لهم وعده بالأمان، ولم يفعل كما فعل "ريكاردوس" الإنجليزي الذي قتل أمام معسكر المسلمين ثلاثة آلاف سلموا أنفسهم إليه بعد أن قطع على نفسه العهد بحقن دمائهم (٢) .


(١) تاريخ الطبري: ٢/ ٤٦٣، وقادة فتح الشام ومصر محمود شيت خطاب: ص ٤٢
(٢) انظر محاضرة الأستاذ الدكتور عبد المجيد محمود عن تعامل المسلمين مع مخالفيهم في الدين، مطبوعات قسم الثقافة الإسلامية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية: ص٣ و٤

<<  <  ج: ص:  >  >>