للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

سبيل الحرب الفكرية المتجنية:

وأما السبيل الثاني والذي هو سبيل الحرب الفكرية المتجنية فقد كان فرسانها الأوائل الرهبان الذي كان العلم مقتصرًا عليهم في أوروبا، فأخذ هؤلاء يشوهون حقائق الإسلام ويعرضونها عرضًا منفرًا على الأوروبيين، وألفوا ودبجوا في ذلك المقالات والكتب والصحف فأغروا قلوب المسيحيين على الإسلام وزرعوا فيهم حقدًا وضغينة أصبح فيما بعد من البدهيات عندهم والذي نرى أثره حتى إلى هذه الأيام، فلقد بلدوا الشعور الغربي نحو المسلمين فأصبحوا لا يتحركون لما يصيب المسلمين من كوارث ومصائب وذلك لما ترسخ في نفوسهم من حقد ورغبة في انقراض المسلمين.

وسائلهم:

ثم تبع هؤلاء الرهبان في عملهم هذا خلق كثير تخصص في ذلك ووقف حياته عليه، ويدلل على مدى الجهد الذي بذلوه في حربهم هذه عدد الكتب والمؤلفات التي أصدروها لهذه الغاية , فإن خيال الإنسان قد لا يطيق تصور عدد الكتب التي ألفوها والنشرات الي طبعوها والمجلات والجرائد التي أصدروها طاعنين ومتهكمين ومستهزئين بكل مظاهر الإسلام , حتى أن القارئ لكثير مما كتبوا لا يستطيع منع نفسه من الضحك على جهلهم بل تجاهلهم لحقائق الإسلام.

ومثال ذلك الكتاب الذي ألفه بوديه سنة ١٦٢٥م مؤرخًا عن الإسلام وهو الكتاب الفرنسي الأول عن الإسلام والذي منه وقف الفرنسيون على حقيقة الإسلام ولقد اعتمد مؤلفه على الكهنة البيزنطيين والأسبان , وهؤلاء هم الذين احتقروا الإسلام والمسلمين احتقارًا وأسفروا لهم عن حقد وضغينة (١) ، ولا أريد أن أمثل على هذه الكتب التي نهجت هذا النهج فالأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى (٢) .

فإننا لا نكاد نمسك ونقرأ أي كتاب غربي يتكلم عن الإسلام أو الشرق "فإننا سنجد فيه أشياء كثيرة مبعثها التحامل، لا يقرها منطق ولا عقل بل تشنيع خال من الحق والعدل تتجلى فيه سوء النية تجليًا لا يقبل الرد" (٣) .

وقد قاد هذه الحرب الفكرية المتجنية فريقان، رجال الكنيسة، وملوك أوروبا وأمراؤها خوفًا من الإسلام الذي أصبح يهددهم في عقر دارهم وذلك بما امتاز به الإسلام من سرعة الانتشار في البلاد التي صل إليها وهذا ما نبه إليه الكثيرون منهم، يقول غاردنو: "إن القوة التي تكمن في الإسلام هي التي تخيف أوروبا" (٤) .

ـ فقام الفريق الأول (قادة الكنيسة ورجالها) بتشجيع حركة التبشير والاستشراق , ووقف أعداد كبيرة من الرهبان عليها فقد ورد في كتاب المستشرقون البريطانيون: فبينما كان التاجر يسعى في تحصيل النفع المادي من علاقاته بالشعوب الشرقية إذ المبشر الإنجيلي يسبقه تارة أويتبعه حثيثًا تارة أخرى وقد امتلأ حماسة شريفة أن يحقق أمر معلمه المسيح بالذهاب إلى كل العالم والتبشير بالإنجيل إلى كل مخلوق، وقد وجد أن مما يساعده على تحقيق ما يرمي إليه من الخلاص الروحي أن يتعلم ما للجماعة التي سيلقاها من لغة وطرق تفكير، وقد ازداد هذا التعليم لزومًا حين وجد الداعي المسيحي نفسه وجهًا لوجه أمام دين تبشيري آخر، هو الإسلام وأمام دعاة قاموا بدعوتهم، مستندين إلى ثقافة ناضجة وفلسفة لاهوتية دقيقة (٥) .

وذلك ليقوموا بكل ما يستطيعون من تشويه وتزييف يهدفون منه هدفين:

الأول: حماية الكنيسة والمكاسب التي حصلت عليها من الزوال بانتشار الإسلام.

والثاني: غزو الشرق بهذه الأفكار محاولين نشر دينهم وثقافتهم وأفكارهم، وتظهر نتائج هذه المحاولة بما قامت به أوروبا من حروب صليبية أشعلها وزاد في جذوتها ما اطلع عليه الأوروبيون من الإسلام عن طريق هؤلاء الرهبان ومن تبعهم (٦) .

يقول البابا: "أوربنانيوس الثاني في مجمع كليرمون ١٠٩٥م وذلك عندما دعا للحروب الصليبية: "إن أهل الإسلام رجال ضعفاء تعوزهم الشجاعة للقتال وجهًا لوجه فيعمدون إلى الهرب واستعمال السهام السامة" هكذا تشويههم وتهميشهم شمل حتى الحقائق المسلمة للمسلمين في سبيل الحروب الصليبية.


(١) المستشرقون لنجيب العقيقي: ص ٤٠
(٢) اشترايت ودندنغر أصدر بين عام ١٩١٦ وعام ١٩٣١م سبعة مجلدات ذكر فيها أسماء مصادر ومراجع تدور حول المبشرين وتسهيل أعمالهم مما يدلل على مدى الجهود التي بذلت في التبشير والذي هو وجه من وجوه هذه المعركة الفكرية "التبشير والاستعمار: ص ٢٦
(٣) المستشرقون والإسلام، لحسن الهراوي: ص ٣٠
(٤) عن كتاب التبشير والاستعمار: ص ٤٢
(٥) المستشرقون البريطانيون د. أح. اربري: ص ١٤ ـ ١٥
(٦) قريب من هذا في كتاب المستشرقون للعقيقي: ص ٣٦

<<  <  ج: ص:  >  >>