فهو عملية ملء الفراغ الفكري والفراغ في الشخصية بالنتاج الغربي، أو قل النتاج الذي يضمن للغرب أن يحقق مآربه دون عائق أو مانع.
هذا وقد شملت عملية الملء ـ هذه ـ مختلف الجوانب في حياتنا الاجتماعية، فعلى الصعيد الفكري: راحت الأفكار الغربية ـ الغريبة على ثقافتنا ـ تروج وتعكس روحها هنا وهناك، وراح الناس ينقسمون إلى مجاميع، تناصر هذه الفكرة الغربية أو تلك وكلتاهما غربية تقيأهما الغرب، والتقمهما هؤلاء، فهنا فكرة القومية، وهناك الوطنية، وهنا الديمقراطية، وهنا أيضا فكرة فصل الدين عن السياسة، وهذا يحلل الحياة الاجتماعية على أساس أنها بنى فوقية للوضع الاقتصادي، وهذا يتبنى الفكر الليبرالي معالجًا القضايا الاجتماعية والدينية وحتى الغيبية ـ إن كان يؤمن بها ـ على ضوئه، وهكذا اقتصرت الثقافة على تلقي الفكر الغربي، والتأمل فيه، بل وتقليده فكريًّا.
وهذا المعنى نفسه انعكس على الفن والأعمال الفنية، كما ترك بصماته المؤثرة على الأدب والشعر.
أما الملء في المجال الخلقي، فحدث عنه ولا حرج، حتى لقد عادت الصفة الغربية للعادة أو السلوك معيارًا للأخلاق الفاضلة، وهكذا شملت عملية الملء المجال التشريعي، والنفسي، وأمثالهما.
وهذا وقد أشرنا إلى أن الاستكبار العالمي استخدم شتى إمكاناته، في مجال فرض التعالي الحضاري الغربي، والواقع أنه استخدم تلك الوسائل ـ بشكل أقوى ـ في مجال ملء الفراغ الفكري، والفراغ الاجتماعي، وهذه الوسائل كثيرة منها:
هذا الأسطول الإعلامي الضخم، الذي تشرف عليه عقول جشعة مفكرة، في كيفية تقديم الغذاء المناسب، وتحريف الحقائق، وتزويق الأكاذيب، إلى الحد الذي يقل نظيره في التاريخ. كما أن منها عملية الاستشراق الضخمة، التي عبرت بكل وضوح عن التلاحم الثلاثي الآنف، في دفع هذه الحملة الثقافية الاستعمارية للاطلاع على ما لدى المسلمين، واكتشاف نقاط ضعفهم، وضربهم من خلال تلك النقاط، واكتساب شخصية علمية لدى المسلمين وتحريف الحقائق، وتقديم الطبخات الغربية للأذواق الإسلامية، وتشويه الحضارة.