للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

(و) ونسبوا إلى القرآن أخطاء أخلاقية منها أن يبيح الكفر عند الإكراه عليه كقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ} (١) .

وكذبوا في قولهم إن هذا الخطأ أخلاقي بل هو قمة الكرم والأخلاق والجمال الإسلامي، فالمكره لا حول له ولا قوة إزاء المكره القوي الظالم وهو بين أمرين كلاهما مر، إما أن يموت في سبيل إصراره على الإسلام، أو يقول كلمة الكفر عند الضرورة ليخرج من المأزق ثم يستأنف الجهاد، وكلمة الكفر في هذه الحال أنفع للإسلام والمسلمين من إزهاق روح بريئة مسلوبة الإرادة، وفرق بين هذا وبين التضحية بالروح في سبيل الإسلام والدعوة، فهذه تضحية يحث عليها الإسلام ويرغب فيها ويجعلها أعظم الأعمال حين تقوم على الإرادة الصادقة والنية المخلصة، بينما المكره لا حول له ولا إرادة، فماذا يستفيد الإسلام من موته مكرهًا في سبيل المبدأ؟ إن الإسلام يقدم مصلحة الشخص وحياته في هذا الموقف ويأذن له في كلمة الكفر حتى يصبح حر الإرادة فيموت بحريته أو يعيش مسلمًا بإرادته، وهذا موقف أخلاقي أسمى وأعظم من الموت على الإسلام تحت الإكراه والظلم، وإذا رجعنا إلى سبب نزول الآية وقفنا على الحق، قال القاضي أبو محمد رحمه الله: (كان عبد الله بن أبي السراج ومقبس بن صبابة وأشباهها ممن كان آمن برسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم ارتد، فلما بين في هذه الآية – السابقة على آياتنا – أمر الكاذبين بأنهم الذين كفروا بعد الإيمان أخرج من هذه الصفة القوم المؤمنين المعذبين بمكة، وهم بلال وعمار وسمية أمة وخباب وصهيب وأشباههم، ولذلك أن كفار مكة كانوا في صدر الإسلام يؤذون من اسلم من هؤلاء الضعفه، ويعذبونهم ليرتدوا ـ فربما سامحهم بعضهم بما أرادوا من القول، وروى أن عمار بن ياسر فعل ذلك فإستثناء الله في هذه الآية، وبقيت الرخصه عامه في الأمر بعده، وروى أن عمار إشتد عليه ما قاله فكلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال له: ((كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أكان منشرحا بالذي قلت أم لا؟)) قال، لا، قال: فأنزل الله {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} (٢)

ولهذا أتضح لنا الأمر كان صعبا والإكراه كان شديدا فإذن الله لهم ولمن في مثل أحوالهم بذلك قولا وفعلا وهذه رحمة من الله وفضل. أما من ينشرح صدره لكلمة الكفر وبلا ضغط ولا إكراه، فهذا مغضوب عليه من الله وله عذاب عظيم.


(١) سورة النحل: الآية ١٠٦
(٢) تفسير ابن عطية: ٨/٥١٥، وهامش: ص ٥١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>