للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن الباحث في مؤسسات الاستشراق ووسائله المختلفة يجد أنها استطاعت أن تؤثر في العقلية الإسلامية، فهذه دائرة المعارف الإسلامية تعد أكبر مصدر للمعلومات والحقائق الإسلامية، وأثمن ذخيرة لها، وتعتبرها بعض البلاد الإسلامية اليوم، أساسًا للمعلومات الإسلامية، وتقوم بترجمتها إلى لغاتها بنصها وروحها (١) .

ولقد نجحت العقلية الأوروبية الاستشراقية في فرض شكليتها وآليتها على التحقيق والتقويم والنقد والسيطرة على مصادر التراث العربي الإسلامي، ويمكن القول بأن معظم الكتابات العربية المعالجة للتراث، قد سارت على هذا النهج في التاريخ، والأدب، وغيره.. ولم تتجاوزه إلا في القليل النادر، وانتهت إلى إيجاد ركائز عربية معبرة عنها، ومتبنية لوجهة نظرها، ومدافعة عن المواقع الثقافية التي احتلتها، حتى في الجامعات، والمؤسسات العلمية لا يزال الخضوع والاحتكام للقوالب الفكرية، التي اكتسبها بعض المثقفين العرب، من الجامعات الأوروبية (٢) .

وبجانب كل هذا فإن الاستشراق يذهب إلى محاولة إلغاء النسق الإسلامي، ومحاولة تشكيل العقل المسلم، وفق النسق الغربي الأوروبي، وإنجاب تلامذة من أبناء العالم الإسلامي، لممارسة هذا الدور , والتقدم باتجاه الجامعات والمعاهد، ومراكز الدراسات والإعلام والتربية في العالم الإسلامي لجعل الفكر الغربي والنسق الغربي هو المنهج، والمرجع، والمصدر، والكتاب (٣) .

ومما يلحظه الباحث بوضوح أن عمليات الاستشراق والتغريب، لم تستسلم، ولم تلق السلاح، لكن لما أعياها السعي، فبدل أن تقر بفساد نظرياتها، وطروحاتها، وعدم إمكانية القبول لها في العالم الإسلامي، تحاول اليوم أن تعتبر أن المشكلة والعلة في بنية العقل المسلم أصلًا، لتأتي على البنيان الإسلامي من القواعد، وترسب في النفوس أن السبب في التخلف، والعجز، والتخاذل الثقافي، وعدم القدرة على الإبداع، وقبول الفكر الغربي، هو في بنية هذا العقل، وتكوينه، وميراثه الثقافي.

فهو عقل مولع بالجزئية، وعاجز عن النظرة الكلية للأشياء، وهو عاطفي يحب الإثارة والانفعال، ويعجز عن الفعل، وهو محكوم أيضًا بموروث ثقافي، لا يستطيع الفكاك منه, فهو لا يفكر بطلاقة وحرية، لأنه محكوم بوحي مسبق، وهو يقوم على منهج التفكير الاستنتاجي، ويعجز عن التفكير الاستقرائي، وهو معجب بالمنهج البياني، وعاجز عن المنهج البرهاني، وهو يخلط بين الواقع المعاش والمثال الخيالي، وصاحبه يحب الثأر، ويغرق في الملذات، وإن الإسلام الذي يكون هذا العقل هو دين أمر ونهي، وزجر وكبت للحرية، وإلغاء للاجتهاد، الأمر الذي أدى إلى التقليد وفقدان الشخصية، والقدرة على الإبداع (٤) .

ولابد أن نعترف بأن الاستشراق يستمد قوته من ضعفنا، ووجوده نفسه مشروط بعجز العالم الإسلامي عن معرفة ذاته، وينهض عن عجزه، ويلقي على كاهله أثقال التخلف الفكري والحضاري، يومها سيجد الاستشراق نفسه في أزمة وخاصة الاستشراق المشتغل بالإسلام، ويومها لن يجد الجمهور الذي يخاطبه، لا في أوروبا، ولا في العالم الإسلامي، ولا يجوز لنا أن ننتظر من غيرنا – أيًّا كان هذا – أن يساعدنا على النهوض من كبوتنا (٥) .

وإذا كان علينا أن نضع عن أنفسنا أغلال الوصاية الفكرية فإن علينا من ناحية أخرى أن نتحرر من عقدة التخلف التي تسيطر علينا في جميع مناحي حياتنا والتي تسد علينا منافذ الأمل في الخروج من أزمتنا فقد تحرؤرنا من الاستعمار العسكري ولكننا لم نتحرر من القابلية للاستعمار , ولهذا فإن نظرتنا لكل ما يأتي من الغرب هي نظرة التقدير والإكبار، حتى وإن كان هذا الذي يرد إلينا متمثلًا في أزياء غريبة عن أذواقنا وتقاليدنا (٦) .

وحتى نكون في مستوي الحوار الفكري، والتبادل المعرفي، ونوقف فعلًا الغزو الفكري والاختراق الاستشراقي، لابد أن نكون قادرين على امتلاك الشوكة الفعلية.. أن نكون قادرين على الإنتاج الفعلي لمواد ثقافية تمثل ثقافتنا وتأتي استجابة لها، وتغري الناس بها، وبذلك وحده نكون في مستوي الحوار والتبادل المعرفي، فالمواجهة لا تكون بإدانة الآخرين والنظر إلى الخارج دائمًا، وإنما تبدأ حقيقة من النظر إلى الداخل أولًا لملء الفراغ بعمل بناء مستمر، وتحصين الذات (٧)


(١) الشيخ أبو الحسن الندوي، الإسلام والمستشرقون، مجلة المنهل، عدد ٤٧١: ص ٢٦
(٢) الأستاذ عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة العدد رقم ٢٧: ص ١٤
(٣) المصدر السابق: ص ١٦
(٤) المصدر السابق: ص ٢٧، ٢٨
(٥) الدكتور محمد حمدي زقزوق، الاستشراق والخلفية الفكرية للصراع الحضاري ص ١٢٧، ١٢٨
(٦) المصدر السابق: ص ١٢٨
(٧) عمر عبيد حسنة، مقدمة كتاب الأمة، العدد رقم ٢٧: ص ٢٩

<<  <  ج: ص:  >  >>