وبعد تأمين الخطة يبدأ التنفيذ وعلى مراحل، والتنفيذ يحتاج إلى ذكاء ومهارة فائقة, فيما أن الغزو لم يعد غزو قتل، بل غزو تخدير، غزو فكر لفكر، غزو ثقافة لثقافة، صراع حضارة وحضارة، فالأسلحة التي ستستعمل في الهجوم لابد أن تكون من جنس أسلحة الدفاع والمقاومة، أسلحة الفكر، وهى أسلحة لا تبيد هياكل الإنسان ولكنها تقتل فيه روح العزة والكرامة وتبقيه جاهزًا للاستغلال تمامًا كالأسلحة التي قيل إنها تقتل الحياة ولا تمس بأذى المدن , فتبقى صالحه للعمران.
فإذا بالمبشر الخبير , والطبيب المبشر، والكنيسة والمستشفى، وإذا بالمعلم والكتاب والمدرسة، وإذا بالصحافة والإذاعه فالتلفزة، فإذا بالمعونات والهبات والقروض المشبوهة المشروطة، والمؤسسات الثقافية، وأندية الترفيه، وإذا بالضغوط السياسية من وراء الكواليس ... جيوش جرارة تنطلق ومجموعه مصائد محكمة التصميم، محكمة التنفيذ، محكمة التضليل، محكمة الزخرفة، قوية اللمعان، براقة، تسحر العيون، وتجذب النفوس، وتضع الغشاوة على البصائر، وتخلط السم وبالعسل، وتقتل على مهل، وقد يأتى مفعولها بعد جيل أو جيلين:
وكل هذا لترويض عقلية الناس ومحو شخصيتهم بالقضاء على دينهم، على عقيدتهم؛ الصخر الصلد الذي تهشمت عليه معاولهم، ونبت عنه سيوف الوثنية الجاهلية من قبل، وصدع إمبراطورية الفرس والروم، ورد الصليبية المتعصبة وقادتها من ملوك أوروبا الكبار من أمثال ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا، ولويس التاسع ملك الفرنسيين الذي ترك ذكريات لا تنسى بالمنصورة.
إن الذي جهله، أو يتجاهله بعض المسلمين أن الحرب الفكرية، الحرب الحضارية التي يخوضها الغرب المادى الرأسمالى الملحد ليست حربًا موجهة لدولة معينة أو لشعب معين من دول الإسلام وشعوبه، بل هي حرب عامة، حرب عقيدة، حرب فكر وحضارة، لايكون تركيزها على بلد أو على منطقة إلا خطة تكتيكية، إستراتيجية، مرحلية، فهى كمحاصرة حصن كبير عصى، فكل ثغرة وكل ثلمة تحدث فيه وفى أي مكان تهيه وتساعد على تدمير بقية أجزائه وإن طال الأمد.
فلتزل الغشاوة، وليرفع الحجاب، وليفكر أهل الفطنة ومن بقيت لديهم عقيدة الإسلام، أو لديهم غيرة على الإسلام، فليدرك الجميع أبعاد ما يتعرض له الإسلام من حرب شرسة تستعمل كل أنواع السلاح، وأخطر هذه الأنواع كلها سلاح الفكر، وأن السفينة إذ خرقت غرقت، غرقت بكل ما فيها، الخارقين والذين لم يأخذوا على أيديهم في الوقت المناسب.
فالهجوم الفكري الثقافي يهدف إلى ترويض عقلية الناس ومحو شخصيتهم بالقضاء على دينهم وتغيير منطقهم ليصبحوا هم أنفسهم المدافعين عن ساداتهم، هم أنفسهم الغيورين على ثقافة وحضارة جلاديهم، هم أنفسهم الناشرين لفكرهم، هم أنفسهم الساخرين من دينهم، هم أنفسهم العاملين لنقض كل شيء يتصل بحضارتهم وتراثهم، إذ يرون من ضلالهم، أن سبب شقائهم وتأخرهم ناتج عن حضارتهم، فهم يعملون بحماس ونشاط وفاعلية لهدم كل الأسس التي قامت عليها تاريخهم وفكرهم وحضارتهم، ولا يحتاجون إلى توجيه، فعملهم هذا يستند إلى رغبة جامحة لديهم، فبعد أن مسخوا أصبحوا خلقًا جديدًا.
والناس لا تختلف الاختلاف الحقيقي بأشكالها، فاختلافها الحقيقي يتمثل في أفكارها ومفاهيمها، وتصرفاتها التي هي رد فعل لما يعتمل في الأذهان ...
وهذه هي مرحلة الانهيار الكامل، وهى الانهزام الفكرى الحضارى، وهى أمل الغزو الفكرى، وهى الغاية التي يسعى إليها أعداء الإسلام، ويعملون ليلًا ونهارًا للوصول إليها.