النوع الثاني: وهو ثاني رخصة حقيقية ولكن الأول أحق منه لكونه رخصة ما أباح الشارع، مع قيام الدليل المحرم دون حكمه الذي هو الحرمة.
مثاله: إفطار المسافر في رمضان؛ فإن المحرم للإفطار وهو الدليل الذي أوجب الصوم عند شهود الشهر قائم، وشهود الشهر قائم لكن حرمة الإفطار غير قائمة؛ لأن الشارع رخص في الإفطار لعذر السفر بناء على أن سبب وجوب الصوم تراخي حكمه لقوله تعالى:{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}[البقرة: ١٨٤] ومثله فطر المريض.
حكم هذا النوع: العزيمة في هذا النوع أولى ما لم يستقر بها نظرا إلى قيام السبب، وأما إذا استقر فلا أولوية للعزيمة، فإن مات بها أثم لقتله نفسه بلا مبيح.
النوع الثالث: وهو الذي هو رخصة مجازا وهو أتم في المجازية أي أبعد عن الحقيقة من النوع الآخر؛ ما وضعه الشارع عنا في شريعتنا من الأغلال والأحكام الشاقة التي شرعت على من قبلنا من الأمم كقتل النفس في صحة التوبة وأداء الربع في الزكاة والقصاص في القتل عمدا أو خطأ، وإحراق الغنائم، وتحريم الطيبات بسبب الذنوب.
النوع الرابع: وهو الذي رخصة مجازا لكنه أقرب من حقيقة الرخصة من النوع الذي قبله؛ ما سقط عنا مع كونه مشروعا في الجملة، فمن حيث إنه مشروع في حقنا في الجملة كان شبيها بالرخصة الحقيقية بخلاف النوع الثالث؛ فإنه لما لم يكن مشروعا في حقنا أصلا وكان سببه معدوما أيضا كان أبعد من الرخصة الحقيقية.
مثاله: بيع السلم وهو بيع آجل بعاجل سقط اشتراط ملك المبيع فيه مع اشتراطه فيما عداه من البياعات إجماعًا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تبع ما ليس عندك)) وقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة أو السنتين فقال: ((من أسلف في ثمر فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)) تيسيرا وتخفيفا؛ لأنه من بيع المفاليس فكان رخصة مجازا لا حقيقة؛ لأن السبب المحرم قد انعدم في حقه شرعًا، فلو لم يبع سلما وتلف جوعا أثم لإلقائه بنفسه إلى التهلكة غير ملجئ. واكتفي في صحة السلم بالعجز التقديري، عن المبيع بأن يكون المسلم فيه في ملكه ولكنه مستحق الصرف إلى حاجته ودليل الحاجة إقدامه عليه؛ فإنه لا يرضى بأرخص الثمنين إلا لحاجة فلم يشترط العجز الحقيقي وهو أن لا يكون في ملكه حقيقة (١) .