للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

موقف الإمام الشاطبي من الرخصة:

يرى الإمام الشاطبي أن حكم الرخصة الإباحة مطلقا ويسوق لمذهبه طائفة من الأدلة نجملها في الآتي:

الأول: موارد النصوص عليها كقوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: ١٧٣] وقوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: ١٠١] وقوله: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: ١٠٦] وأشباه ذلك من النصوص الدالة على رفع الحرج والإثم مجردا لقوله {فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ} وقوله {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ولم يرد في جميعها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة بل إنما أتى بما ينفي المتوقع في ترك أصل العزيمة وهو الإثم والمؤاخذة على حد ما جاء في كثير من المباحات بحق الأصل كقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: ٢٣٦] {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: ١٩٨] {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: ٢٣٥] إلى غير ذلك من الآيات المصرحة بمجرد رفع الجناح وبجواز الإقدام خاصة.

الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه حتى يكون من ثقل التكليف في سعة، واختيار بين الأخذ بالعزيمة، والأخذ بالرخصة، وهذا أصله الإباحة كقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢] {مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: ٣٢] بعد تقرير نعم كثيرة.

وأصل الرخصة السهولة، ومادة رخص للسهولة واللين، كقولهم: شيء رخص بين الرخوصة، ومنه الرخص ضد الغلاء، ورخص له في الأمر فترخص هو فيه: إذا لم يستقص له فيه فمال هو إلى ذلك، وهكذا سائر استعمال المادة.

الثالث: لو كانت الرخص مأمورا بها ندبا أو وجوبا لكانت عزائم الأرخص، والحال يفيد ذلك، فالواجب هو الحتم اللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات أنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها، فإذا كان كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين، وذلك يبين أن الرخصة لا تكون مأمورا بها من حيث هي رخصة (١) .


(١) الموافقات ١ / ٣٠٧، ٣٠٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>