ذهب فريق من العلماء إلى أنه ليس لمن جاء بعد عصر الصحابة أن يتعلقوا بمذهب الصحابة، وبنى الإسنوي المنع على جواز الانتقال في المذاهب، والصحيح أن مبناه التدوين وعدمه. ونقل عن إمام الحرمين في البرهان إجماع المحققين على منع العوام أن يتعلقوا بمذهب أعيان الصحابة رضي الله عنهم بل عليهم أن يتبعوا مذاهب الأئمة الذين سبروا فنظروا وبوبوا الأبواب وذكروا أوضاع المسائل لأنهم أوضحوا طرق النظر وهذبوا المسائل وبينوها جمعوها. وبنى ابن الصلاح على ما قاله إمام الحرمين قوله بوجوب تقليد واحد من الأئمة الأربعة لأن مذاهب هؤلاء الأربعة قد انتشرت وعلم تقييد مطلقها وتخصيص عامها ونشرات فروعها بخلاف مذهب غيرهم.
وفيما قال الاثنان نظر وقد رده جمع من العلماء قال القرافي.
انعقد الإجماع على أن من أسلم فله أن يقلد من شاء من العلماء ومن غير حجر، وأجمع الصحابة على أن من استفتى أبا بكر وعمر له أن يستفتي أبا هريرة ومعاذ بن جبل وغيرهما ويعمل بقولهم من غير نكير، فمن ادعى رفع هذين الإجماعين فعليه البيان. قال صاحب الفواتح: فقد بطل بهذين الإجماعين قول إمام الحرمين، ونقل المطيعي في حاشيته على نهاية السول عن عز الدين بن عبد السلام: أنه لا خلاف بين الفريقين في الحقيقة بل إن تحقق مذهب عن واحد منهم جاز تقليده وفاقًا وإلا فلا. وقال أيضًا: إذا صح عن بعض الصحابة مذهب في حكم من الأحكام لم يجز مخالفته إلا بدليل أوضح من دليله هذا (١) .
وقال الشيخ نجيب المطيعي: الحق، أنه إنما منع من تقليد غيرهم لأنه لم تبق رواية مذاهبهم محفوظة حتى لو وجد رواية صحيحة عن مجتهد آخر يجوز العمل بها، ألا ترى أن المتأخرين أفتوا بتحليف الشهود إقامة له مقام التزكية على مذهب ابن أبي ليلى. ثم قال: وحاصل هذا أنه امتنع تقليد غير هؤلاء الأئمة الأربعة من الصحابة وغيرهم لتعذر نقلب حقيقة مذاهبهم وعدم ثبوته حق الثبوت؛ لا لأنه لا يجوز تقليدهم حتى لو نقل مذهب واحد من المجتهدين غير أولئك الأربعة بطريق صحيح جاز العمل به بلا فرق بين الصحابة وبين غيرهم من سائر المجتهدين.
(١) نهاية السول وحاشية المطيعي ٢ / ٦٣٠. تيسير التحرير ٤ / ٢٥٥، ٢٥٦.