للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

التلفيق في التشريع

ويقصد بالتلفيق في التشريع تخير ولي الأمر من أحكام مختلف المذاهب الفقهية المعتبرة مجموعة من الأحكام لتكون قانونا يقضى ويفتى به بين الناس في إقليم دولته وأول من عزم على وضع قانون شامل من الخلفاء فيما علم كان في زمن الإمام مالك أراد حمل الناس في الآفاق على مذهبه فمنعه مالك واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها فلم ير الحجر على الناس (١) حتى كان في زمن العباسيين حملوا الناس على فقه أبي حنيفة في القضاء فكانوا لا يولون القضاء إلا من تفقه على هذا المذهب إلا أنهم كانوا في بعض الأحايين يخالفونه إخمادا لفتنة، كالذي حكاه الماوردي في زمن الرشيد أنه رفع إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافرا فحكم عليه بالقود فأتاه رجل برقعة فألقاها إليه فإذا فيها مكتوب.

يا قاتل المسلم بالكافر

فجرت وما العادل كالجائر

يا من ببغداد وأطرافها

من علماء الناس أو شاعر

استرجعوا وابكوا على دينكم

واصطبروا فالأجر للصابر

جار على الدين أبو يوسف

بقتله المؤمن بالكافر

فدخل أبو يوسف على الرشيد وأخبره الخبر وأقرأه الرقعة فقال له الرشيد: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا تكون فتنة فخرج أبو يوسف وطالب أصحاب الدم ببينة على صحة الذمة وثبوتها فلم يأتوا بها فأسقط القود.

وعلق الماوردي على هذه الواقعة: بأن التوصل إلى مثل هذا سائغ عند ظهور المصلحة فيه (٢) . ذلك أن القود عند الشافعي مرهون بتكافؤ الدين بأن لا يفضل القاتل على المقتول بحرية ولا إسلام فإن فضل القاتل عليه بأحدهما فقتل حر عبدًا، أو مسلم كافرا فلا قود عليه، وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا التكافؤ فيقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر كما يقتل العبد بالحر والكافر بالمسلم (٣) .

ثم قال: وما تتحاماه النفوس من هذا وتأباه قد منع القائلين به من العمل عليه. ومن ثم ساغ القول بأن التلفيق في التشريع قد يكون ضرورة من الضرورات التي لا يستغنى عنها خاصة في عصرنا، وأول عمل من هذا القبيل كان في عهد الأتراك العثمانيين عندما أصدروا المجلة العدلية كقانون للمعاملات في الدولة، وهذه المجلة وإن كان جل موادها مأخوذًا من مذهب أبي حنيفة إلا أنه قد روعي اختيار بعض المسائل وإن كانت مرجوحة في هذا المذهب لمناسبتها روح العصر، مثل عدم رجوع المستصنع في عقد الاستصناع إذا وجد المصنوع موافقا للصفات التي بينت في العقد أخذًا بقول أبي يوسف خلافًا لأبي حنيفة، كذلك الأخذ بقول الإمام محمد بن الحسن بجواز بيع المعدوم كالخضروات والفواكه التي يتلاحق ظهور محصولاتها، فقد جوز بيع هذا استحسانا وقال: اجعل الموجود أصلا والمعدوم تبعًا، وذلك طبقًا لما جاء في المادة السابعة بعد المائتين وكذلك الأخذ بقول الصاحبين في بيع الصبرة كل بكذا فعند أبي حنيفة يصح البيع في مد واحد فقط وعند الصاحبين يصح في جميع الصبرة مهما بلغت.


(١) البحر المحيط ٦ / ٣١٩.
(٢) الأحكام السلطانية ص ٢٨٨.
(٣) الأحكام السلطانية ص ٢٨٨

<<  <  ج: ص:  >  >>