للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ومن حيث إن الحكم متراخ عن السبب غير ثابت في الحال كان غيره أحق فكان هذا القسم دون الأول، فإن كمال الرخصة يبتنى على كمال العزيمة، فإذا كان الحكم ثابتًا مع السبب كان في العزيمة أقوى مما إذا كان الحكم متراخيًا عن السبب.

بمنزلة البيع بشرط الخيار مع البيع البات، والبيع بثمن مؤجل مع البيع بثمن حالٍّ، فإن الحكم وهو الملك في المبيع، والمطالبة بالثمن ثابت في البيع البات المطلق، ولكن الحكم متراخ عن السبب في البيع بشرط الخيار أو الأجل.

وبيان هذا النوع في الصوم في شهر رمضان للمسافر والمريض.

فإن السبب الموجب شرعًا وهو شهود الشهر قائم، ولذا لو أديا كان المؤدى فرضا – لكن الحكم متراخ إلى إدراك عدة من أيام أخر، ولهذا لو ماتا قبل الإدارك لم يلزمهما شيء، ولو كان الوجوب ثابتا للزمهما الأمر بالفدية عنهما، لأن ترك الواجب بعذر يرفع الإثم ولكن لا يسقط الخلف وهو القضاء أو الفدية (١) .

والتعجيل بعد تمام السبب مع تراخي الحكم صحيح كتعجيل الدين المؤجل.

حكم هذا النوع: أن الأخذ بالعزيمة أولى لكمال سببه وهو شهود الشهر ولتردد في الرخصة، حتى صارت العزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه، إذ الرخصة لليسر، والصوم في السفر يسر من وجه لأجل موافقة المسلمين وشركته مع سائر الناس يصومون.

أما إذا أضعفه الصوم فحينئذ الفطر أولى بالاتفاق.

وأما النوع الثالث: وهو أتم نوعي المجاز، فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] وقال تعالى: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: ٢٨٦] .

فإن ذلك يسمى رخصة مجازًا لأن الأصل ساقط لم يبق مشروعًا فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو فسخ لمحض تخفيفًا.

وذلك لما وجبت على غيرنا فإذا قابلنا أنفسنا بهم كان السقوط في حقنا توسعة وتخفيفًا، فحسن إطلاق الرخصة عليه باعتبار الصورة تجوزًا لا تحقيقًا، لأن السبب الموجب للحرمة مع الحكم معدوم أصلاً بالرفع والفسخ والإيجاب على غيرنا لا يكون تضييقا في حقنا، والرخصة فسحة في مقابل التضييق.


(١) السرخسي ١ / ١١٨، والبزدوي ٢ / ٥٨٦، وكشف الأسرار على المنار ١ / ٤٦٦، والميزان للسمرقندي (ص ٨٦) .

<<  <  ج: ص:  >  >>