للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما النوع الرابع: فما سقط عن العباد مع كونه مشروعا في الجملة.

أي في بعض المواضع سوى موضع الرخصة.

فمن حيث إنه لم يبق في موضع الرخصة أصلاً كان من قسم المجاز.

ومن حيث إنه بقي في موضع آخر ... أي بقي السبب والحكم مشروعًا في الجملة. أخذ شبهًا في الحقيقة فضعف وجه المجاز فكان دون القسم الثالث، ولكن جهة المجاز غالبة على شبه الحقيقة لأن جهة المجاز بالنظر إلى محل الرخصة – وشبه الحقيقة بالنظر إلى غير محلها فكان جهة المجاز أقوى.

وبيان هذا النوع في فصول: منها السلم: روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان حيث قال: ((لا تبع ما ليس عندك)) (١) ورخص بالسلم. والسلم نوع بيع واشتراط العينية في المبيع المشروع قائم في الجملة ثم سقط هذا الشرط في السلم أصلاً حتى كانت العينية في المسلم فيه مفسدة للعقد لا مصححة، وكان سقوط هذا الشرط للتيسير على المحتاجين حتى يتوصلوا إلى مقاصدهم من الأثمان قبل إدراك غلاتهم، ويتوصل صاحب الدراهم إلى مقصوده من الربح فكانت رخصة من حيث إخراج السبب من أن يكون موجبًا اعتبارا العينية فيه مع بقاء هذا النوع من السبب موجبًا له في الجملة. وكذلك المسح على الخفين رخصة مشروعة لليسر، وكذلك المكره على شرب الخمر أو الميتة أو المضطر إليهما رخصة مجازًا لأن الحرمة ساقطة، حتى إذا صبر حتى مات صار آثما لأن حرمته ما ثبتت إلا صيانة لعقله ودينه عن فساد الخمر ونفسه عن الميتة فإذا خاف به فوات نفسه لم يستقم صيانة البعض بفوات الكل فسقط المحرم وكان إسقاطا لحرمته (٢) .

ومن ذلك قصر الصلاة في السفر، إنه رخصة إسقاطًا لا يصح أداؤه من المسافر وإنما جعلناها إسقاطًا استدلالاً بدليل الرخصة ومعناها.

أما الدليل: فما روي عن عمر رضي الله عنه قال: أنقصر ونحن آمنون؟ فقال عليه الصلاة والسلام: ((إن هذه صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) ، سماه صدقة والتصدق بما لا يحتمل التمليك إسقاط محض لا يحتمل الرد وإن كان المتصدق ممن لا يلزم طاعته كولي القصاص إذا عفا فممن تلزم طاعته أولى.


(١) رواه الترمذي في البيوع باب الكراهية ٣ / ٥٣٤ رقم ١٢٣٢، وأبو داود في الإجارة باب الرجل يبيع ما ليس عنده ٣ / ٢٨١ رقم ٣٥١٣، وابن ماجه في التجارات. وغيرهم.
(٢) بدائع الصنائع للكاساني ٧ / ١٧٦، وأحكام القرآن لابن العربي ١ / ٥٤، وأحكام القرآن للجصاص ١ / ١٢٨، وقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ١ / ٢٩٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>