للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ثانيًا: أن المفتي أقام المستفتي مقام الحاكم على نفسه، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا.

أما إن كان المتخير عاميًا: فبتخييره بين القولين قد استند بفتوى نفسه حيث تتبع الرخص إلى شهوته وهواه، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع.

وجه هذا القول: لأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي فهو قائل له: أخرجني عن هواي ودلني على اتباع الحق – فلا يمكن والحال هذه أن يقول له: في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت، فإن معنى هذا تحكم الهوى دون الشرع، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى – بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه – رمي في عماية وجهل بالشريعة، وغش في النصيحة، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره (١) . وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي ثابتًا من أصول الشريعة؛ بل تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى ومضاد لقوله تعالى {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٥٩] فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس، وإنما يرد إلى الشريعة وهي تبين الراجح من القولين فيجب اتباعه.

ومن المفاسد في اتباع رخص المذاهب:

- الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل {فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: ٥٩] إلى اتباع الخلاف.

- الاستهانة بالدين: إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط فلا يحجز النفوس عن هواها ولا يقفها عند حد.

- ترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم.

- احترام قانون السياسة الشرعية بترك الانضباط إلى أمر معروف.

- إفضاؤه إلى القول بتلفيق المذاهب على وجه يخرق إجماعهم.

يؤدي إلى إيجاب إسقاط التكليف جملة، فإن التكاليف كلها شاقة ثقيلة ولذلك سميت تكليفًا من الكلفة وهي المشقة.

فإذا كانت المشقة حيث لحقت في التكليف تقتضي الرفع بهذه الدلائل لزم ذلك في الطهارات والصلوات والزكوات والحج والجهاد وغير ذلك، ولا يقف عند حد إلا إذا لم يبق على العبد تكليف، وهذا محال (٢) .

الشيخ خليل محيي الدين الميس


(١) الشاطبي: الموافقات ٤ / ١٤٠ – ١٤٤، بتصرف.
(٢) الشاطبي: الموافقات ٤ / ١٤٨ – ١٤٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>