للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويتبين لنا أن بعد مضي حقبة من الزمن بدأت تظهر في المجتمع مشاكل مهمة من إجراء تطبيق أحكام متعارضة في مناطق القطر الإسلامي المختلفة.

هناك مسائل كثيرة قد أبدى الفقهاء فيها آراء مضادة بسبب اختلاف الدليل ووجهات نظر متباينة. وقد لا يصعب القيام بإيضاح هذه الخلافات من الناحية العلمية. فمثلاً يمكن لفقيه أن يحكم بإيجاب ضمان في حادثة بينما يحكم فقيه آخر بعدم إيجاب ضمان في نفس الحادثة. كما يمكن أن يحكم فقيه بلزوم إجابة الزوجة إلى طلبها التفريق بينها وبين زوجها بينما يحكم فقيه آخر بعدم التفريق في تلك القضية. كذلك من الممكن أن يحكم فقيه بوجوب القصاص في حادثة في حين يحكم فقيه آخر بعدم القصاص، ويمكن أن يوجد لجميع تلك الاجتهادات تفسيرات علمية مقنعة، فكتب الفقه مليئة بأمثال هذه الاختلافات وما زال العلماء يدافعون عن هذه الآراء المختلفة حتى يومنا هذا.

وهكذا ليس من الصعب أن تحافظ هذه الحلول المتضادة على وجودها دون الإضرار بمشاعر العدالة لدى الأفراد في دول مختلفة أو في أزمنة مختلفة، وكذلك في داخل الدولة نفسها عند اختيار أحد هذه الحلول وتطبيقه على جميع الناس حتى لو كانت النتيجة صعبة التحمل لأحد الأطراف. والمثل القائل " الأصبع الذي تقطعه الشريعة لا يؤلم " يعكس هذا الفهم.

ولكن إذا أبيح تطبيق أحكام مختلفة على أفراد يعيشون في نفس المجتمع، فإن ذلك يؤدي إلى توليد مشاكل هامة في مدة قصيرة كما يسبب في نشوء فوضى تشريعية.

وهكذا فإن عبد الله بن المقفع الذي كان من كتاب الدولة العباسية تنبه إلى تطور الأحداث نحو هذا الاتجاه في العالم الإسلامي في أوائل عهد العباسيين وشعر بالحاجة إلى اقتراح التدابير الكفيلة بإنهاء الفوضى التشريعية في تقريره الهام الذي قدمه للخليفة العباسي.

وباختصار فإن المقفع كان يقترح سلوك منهج التقنين بصورة شاملة لكافة أراضي الدولة.

ولا شك أنه كانت هناك بعض المحاذير في تدوين الأحكام الفقهية إلى جانب فوائدها العديدة. من ناحية أخرى فإن عدم تدوين السنة التي هي إحدى المصادر الرئيسية للتشريع الإسلامي حتى ذلك الوقت كان من أهم العوامل التي يجب أخذها بعين الاعتبار في هذا المقام. لهذا السبب نرى الإمام مالكًا لم يوافق على اقتراح الخليفة بالتقنين (١) .

والخلاصة نرى أن المحاولة الأولى للتقنين في العالم الإسلامي لم تكلل بالنجاح لكن هذا لا يعني أن الحاجة التي دفعت هذه المحاولة إلى الظهور قد ارتفعت بل إن الشعور بالحاجة إلى التقنين قد ازداد بتقدم الزمن.


(١) محمصاني، مقدمة في إحياء علوم الشريعة، ص: ٩٥ وما بعدها.

<<  <  ج: ص:  >  >>