للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هكذا فإن المجتمعات الإسلامية تجاه هذا المأزق (وهو قيام الحاجة لوجود قانون موحد مع عدم استطاعة تحقيق ذلك) قامت بمعالجة هذه المشكلة بحل تلقائي وكان هذا الحل هو استقرار المذاهب الفقهية والاعتماد على مذهب معين وتوظيفه كقانون أساسي.

وبذلك فإن حلول مذهب معين وإن اعتبرت ضعيفة في بعض المسائل بالنسبة إلى حلول المذاهب الأخرى من حيث استجابتها لحاجات المجتمع، وقوتها في نظر الفقيه أو القاضي وكذلك من حيث طمأنتها لمشاعر العدالة، فإن تحقيق وحدة التشريع قد غطى على المحاذير الأخرى.

وهكذا فالعالم الإسلامي بغض النظر عن بعض التنظيمات الجزئية والمحدودة لم ينجح في وضع قانون يحتوي على أحكام فقهية مستفادة من مذاهب مختلفة إلا في أوائل القرن العشرين الميلادي (بوضع قانون الأحوال الشخصية في الدولة العثمانية قيد التنفيذ في عام ١٩١٧) وبعبارة أخرى أولت المجتمعات الإسلامية اهتمامًا أكبر لوظيفة الأمن الحقوقي من وظائف الحقوق الأخرى (وظيفة العدالة ووظيفة موافقة المقصد) .

إذن فالسبب الرئيسي وراء الالتزام بمذهب معين التزامًا متشددًا، - بغض النظر عن أدوار التعصب - - هو البحث عن التناسق التشريعي وعدم التناقض.

فإن كان من الممكن القول بأن المذاهب الفقهية مناهج تشريعية لها من الأصول والمبادئ ما يضمن التناسق والانسجام بين اجتهاداتها، يمكن اعتبار الالتزام بمذهب معين من أحسن الوسائل المتبعة في سبيل تحقيق ذلك المطلب، فإذا أمعنا النظر في الاتجاهات التي برزت إلى الوجود في العهود المتقدمة التي بدأت فيها كتابة المؤلفات الأصولية (وخاصة بالنظر في المناقشات الدائرة والآراء المطروحة حول أصول المذهب الحنفي) نستطيع القول بأن العلماء ينظرون إلى المذاهب (وخاصة إلى مذاهب أنفسهم) بهذه النظرة أي بأنها عبارة عن مجموعة من القواعد والمبادئ المتناسقة فيما بينها داخل إطار المذهب الواحد.

مع هذا لا يمكن إنكار وجود جوانب من هذا القبيل معرضة للانتقاد في كل مذهب. بغض النظر عن ذلك ليس من الممكن اعتبار الاستفادة من آراء المذاهب الأخرى (مع كون القواعد الأصولية للمذهب المتبع متناسقة فيما بينها نظريا) والتي يلجأ إليها نتيجة الاحتياجات التي تحدث في الحياة العملية والتغيرات في ظروف الحياة والمجتمع أو نتيجة لإعادة النظر في الأدلة المستندة إليها (وخاصة السنة النبوية) ، حيث يقوم المختصون في مجال الفقه باقتباس أحكام المذاهب الفقهية الأخرى في بعض المسائل – مع التزامهم أساسًا بمذهب معين – أو يقومون بدراسة كل مسألة من جديد بغية التوصل إلى حل أمثل لا يمكن اعتبار تلك الاستفادة بهذه الصورة إضلالاً لفكرة تحري عدم التناقض.

في ظروفنا المعاصرة ليس من الصعب تلبية هذه الحاجة من حيث المسائل التي هي موضوع المنازعات القانونية والقرارات القضائية إذ من الممكن إحالة الموضوع إلى أهل الاختصاص (الخبراء) لإيجاد الحل الأمثل، المؤيد بالدليل الأقوى، يلبي احتياجات المجتمع وطموحاته. ونتيجة لذلك يمكن كشف صلاحية هذه الحلول وتوحيد تطبيقاتها بآلية الاجتهاد القضائي.

<<  <  ج: ص:  >  >>