للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

واعلم أن هذا التقسيم للرخصة باعتبار أحكامها الشرعية والخلاف في عدد أنواع هذا التقسيم لا يبتنى على أسس عميقة فالذين ذكروا خمسة أنواع استوعبوا في القسمة، والذين ذكروا ثلاثة أنواع أو أربعة أنواع ليس عندهم هذا الاستيعاب بل اكتفوا على الأنواع الهامة وتركوا بعض الأنواع التي يندر وجودها.

وبعض المحققين من الشافعية ذهبوا إلى أن الواجب ليس من أنواع الرخصة لأن الرخصة حقيقة هي الإباحة والتسهيل – والوجوب فيه وكادة تقتضي أن يكون عزيمة وهذا ما أشار إليه إمام الحرمين وتردد في كون الوجوب رخصة – وصرح الكيا الهراسي بكونه عزيمة وقال: وليس أكل الميتة عند الضرورة رخصة بل هو عزيمة واجبة ولو امتنع من أكل الميتة كان عاصيًا، وقال: وليس تناول الميتة من رخص السفر أو متعلق بالسفر، بل هو من نتائج الضرورة سفرًا كان أو حضرًا، وهو كالإفطار للعاصي المقيم إذا كان مريضًا – وكالتيمم للعاصي المسافر عند عدم الماء وهو الصحيح عندنا (١) .

وبحث الزركشي هذه القضية مفصلاً فقال:

وقال ابن دقيق العيد، وهذا يقتضي أن تكون عزيمة لوجود اللزوم والتأكيد، قال: لا مانع أن يطلق عليه " رخصة " من وجه، و "عزيمة " من وجه، فمن حيث قام الدليل المانع نسميه " رخصة "، و – من حيث الوجوب نسميه "عزيمة " (٢) . وهذه نكتة دقيقة من ابن دقيق العيد – فإن الحقيقة أن ارتفاع حكم الحرمة وإباحة ما حرم فيه تغير العسر إلى اليسر مع أن الدليل لحرمة قائم، وهذا هو عين الرخصة – وأما وجوب أكل الميتة للمضطر حذرًا من تلف النفس – فهذا مبني على أصل آخر فما صار مباحًا الآن تغير إلى الوجوب صيانة للنفس – فصارت عزيمة.

قال الزركشي بعد حكاية قول ابن دقيق العيد: وهذا التردد الذي أشار إليه، سبقه إليه إمام الحرمين في " النهاية " وتردد في أن الواجبات هل يوصف شيء منها بالرخصة، قال في باب صلاة المسافر من " النهاية ": يجوز أن يقال إن أكل الميتة ليس برخصة فإنه واجب، ولأجله قال صاحبه الكيا الهراسي في "أحكام القرآن": الصحيح عندنا أن أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة، كالفطر للمريض في رمضان، يتحصل بذلك في مجامعة الرخصة للوجوب ثلاثة أقوال، والظاهر أن الوجوب والاستحباب يجامعها، ولا يكون داخلاً في مسماها (٣) .


(١) أحكام القرآن للفقيه عماد الدين بن محمد الطبري المعروف بالكيا الهراسي المتوفى ٥٠٤ هـ.
(٢) البحر المحيط للزركشي.
(٣) البحر المحيط في أصول الفقه لبدر الدين محمد بن بهادر بن عبد الله الزركشي المتوفى ٧٩٤ هـ: ١ / ٣٢٨.

<<  <  ج: ص:  >  >>