للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال لانعدام سببه فلم يكن رخصة إلا مجازًا من حيث هو نسخ تمحض تخفيفًا، وأما النوع الرابع فما سقط عن العبد بخروج السبب من أن يكون موجبًا لحكمه في حقه مع بقائه موجبًا لذلك في الجملة كسقوط حرمة تناول الخمر والميتة عن المكره والمضطر للاستثناء حتى لا يسعهما الصبر عنهما، وسقوط اشتراط العينية في المسلم فيه أصلاً صار مفسدًا له بعد أن كان مصححًا في الجملة (١) .

هذا هو التقسيم السائد عند الحنفية في الكتب الأصولية – فالإمام حافظ الدين النسفي رحمه الله المتوفى ٧١٠ ذكر في كتابه " المنار" وشرحه كشف الأسرار " هذه الأنواع الأربعة مع بيان أحكامه فقال: " ورخصة وهي أربعة أنواع، نوعان من الحقيقة، أحدهما أحق من الآخر، ونوعان من المجاز، أحدهما أتم من الآخر ... أما أحق نوعي الحقيقة فما استبيح مع قيام المحرم وقيام حكمه كالمكره على إجراء كلمة الكفر ... وإفطاره وجنايته على الإحرام ... وتناول المضطر مال الغير ... وحكمه أن الأخذ بالعزيمة أولى، حتى لو صبر وقتل كان شهيدًا.. والثاني ما استبيح مع قيام السبب لكن الحكم تراخى عنه كالمسافر رخص له الفطر ... وحكمه أن الأخذ بالعزيمة أولى، لكمال سببه، وتردد في الرخصة، فالعزيمة تؤدي معنى الرخصة من وجه ... إلا أن يضعفه الصوم.. وأما أتم نوعي المجاز فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا ... فيسمى ذلك رخصة مجازًا لأن الأصل لم يبق مشروعًا ... والنوع الرابع ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة كقصر الصلاة في السفر....

اعلم أن النوع الرابع، وهو الثاني من نوعي الرخصة، ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة، فمن حيث أن السبب لم يبق موجبًا للحكم وسقط الوجوب أصلاً – كان مجازًا ومن حيث إنه بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة، وذلك مثل قصر الصلاة في السفر، فإنه إسقاط للواجب حقيقة لما لم يبق له حكم بوجه، وسمي رخصة مجازًا حتى لا يجوز للمسافر أن يصلي الظهر أربعًا، ولو صلى أربعًا كان كمن صلى الفجر أربعًا لأن السبب لم يبق في حقه موجبًا إلا ركعتين فكانت الأخريان نفلاً (٢) .

الأصوليون من الأحناف كلهم متفقون على هذا التقسيم الرباعي باعتبار الحقيقة والمجاز، ليس بينهم خلاف في أصل هذا التقسيم ولا في أنواعه، إلا في بعض الأمثلة، أما تقسيم الرخصة باعتبار الأحكام الشرعية فلا يوجد عند الأحناف بالاستقلال، بل يذكرون أحكام الرخصة ضمن الأمثلة للتقسيم الرباعي السائد بينهم.


(١) المغني في أصول الفقه للخبازي الحنفي ٨٧ إلى ٨٩ الطبع الأولة ١٤٠٣هـ.
(٢) كشف الأسرار على المنار ١ / ٣٠٠ – ٣٠٥ المطبعة الكبرى الأميرية ببولاق مصر ١٣١٦ هـ.

<<  <  ج: ص:  >  >>