للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وربما استجاز هذا بعضهم في مواطن يدعي فيها الضرورة وإلجاء الحاجة بناء على أن الضرورات تبيح المحظورات فيأخذ عند ذلك بما يوافق الغرض، حتى إذا نزلت المسألة على حالة لا ضرورة فيها ولا حاجة إلى الأخذ بالقول المرجوح والخارج عن المذهب أخذ فيها بالقول المذهبي أو الراجح في المذهب؛ فهذا أيضا من ذلك الطراز المتقدم، فإن حاصله الأخذ بما يوافق الهوى الحاضر ومحال الضرورات معلومة من الشريعة فإن كانت هذه المسألة منها فصاحب المذهب قد تكفل ببيانها أخذًا عن صاحب الشرع فلا حاجة إلى الانتقال عنها، وإن لم تكن منها فزعم الزاعم أنها منها خطأ فاحش ودعوى غير مقبولة (١) .

فما يظهر من تتبع أقوال الفقهاء والأصوليين أنهم في هذه القضية على ثلاثة مذاهب:

المذهب الأول: منع تتبع رخص المذاهب مطلقًا سواء كان هذا التتبع للتشهي والتخفيف أو كان لأعذار وأمراض.

المذهب الثاني: تسويغ تتبع الرخص مطلقًا بدون قيد أو شرط.

المذهب الثالث: منع تتبع الرخص في عامة الأحوال وتسويغه في أحوال خاصة للضرورة أو المرض أو عذر آخر، فالمذهب السائد بين عامة الفقهاء هو عدم جواز تتبع الرخص حتى أن بعضهم ادعى الإجماع على هذا – ودليلهم أن تتبع الرخص ليس إلا للتشهي واتباع الهوى، وحرمة اتباع الهوى والتشهي مصرحة في الكتاب والسنة ومجمع عليها بين الفقهاء، وعلاوة على ذلك لو أبحنا تتبع الرخص ارتفع التكليف مع أن الشريعة كلفت الإنسان بأحكام تشق على نفسه. قال الشاطبي في الموافقات: تتبع الرخص ميل مع أهواء النفوس والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى فهذا مضاد لذلك الأصل المتفق عليه.

المحظور الثاني في إباحة تتبع الرخص مطلقًا أن الدين يكون لعبة للاعبين وعبثًا للعابثين، ولو عم هذا المرض في المجتمع الإسلامي يؤدي إلى الانحلال والفجور وتعطل مصالح الشريعة بل مقاصدها الكلية.

وجماعة من الفقهاء والأصوليين ذهبوا إلى إباحة تتبع الرخص مطلقًا وحجتهم أن تتبع الرخص ليس إلا طلب اليسر والسهولة في الشريعة وأن الكتاب والسنة حافلان بأدلة طلب السهولة واليسر ولا مانع من أن يقلد الإنسان مجتهدًا في مسألة ويقلد مجتهدًا آخر في أخرى، وأدلة طلب اليسر والسهولة أكثر من أن تحصى – الفقيه الأصولي ابن الهمام رأس هذا المذهب، فإنه في كتابه " فتح القدير " أباح تتبع الرخص مطلقًا، وفي كتابه " التحرير " قيد هذه الإباحة بأنه " لم يكن عمل بقول إمام آخر في ذلك المحل الذي يريد فيه التخفيف ".


(١) الموافقات في أصول الشريعة للشاطبي ٤ / ١٤٥ طبع دار المعرفة، بيروت – لبنان.

<<  <  ج: ص:  >  >>