القول الذي أميل إليه هو التفصيل في هذه المسألة وهو أن تتبع الرخص لا يجوز في عامة الأحوال للتشهي أو التلهي أو اتباع الهوى، أما لو كان تتبع الرخصة في أحوال خاصة للضرورة أو العذر أو المرض يجوز بشروط مخصوصة؛ تفصيل هذا الرأي أن الشريعة كما أنها نهت عن اتباع الهوى والتلهي، هكذا راعت جانب اليسر والسهولة في الأحكام {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}[الحج: ٧٨] وبعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة، فلا بد من رعاية هذين الجانبين في هذه المسألة والذي يظهر لي – والله أعلم – أن تتبع الرخص الممنوع الذي ادعى البعض الإجماع على منعه أن يأخذ الإنسان من كل مذهب ما هو الأخف عليه لمحض اتباعه هوى نفسه بدون ضرورة وعذر؛ لأنه لو فتح هذا الباب يكون ذريعة للانحلال من التكاليف الشرعية ويصير الدين هزؤا، ويدخل في هذا النوع من تتبع الرخص أن يختار الإنسان أقوال مختلف الفقهاء في مختلف المسائل للتشهي والتهلي:
مثلاً: رجل أراد الفجور مع امرأة لكنه خاف إقامة حد الزنا عليه فنكح هذه المرأة بدون ولي ولا شهود فأخذ بقول أبي حنيفة في صحة نكاح المرأة البالغة بدون إذن ولي، وأخذ بقول مالك في صحة النكاح بدون شهود ولا شك أن مثل هذه الأعمال من تتبع الرخص تلاعب بالشريعة واستهزاء بها، لا يرضاها أحد من العقلاء فضلاً عن الفقهاء، فإنهم أعقل الناس وأدراهم بمقاصد الشريعة – أما الاستفادة برخص المذاهب في أحوال خاصة مثلاً: اختيار فقهاء الأحناف قول الإمام مالك رحمه الله في مسألة المفقود وفي بعض المسائل الأخرى – واختيار فقهاء الشافعية بعض الآراء من الفقه المالكي أو الفقه الحنفي فلا بأس به، فإن المعضلات المتجددة والقضايا المعاصرة لا يمكن حلها إذا قيدنا العمل بقول مجتهد واحد – خاصة في المعاملات التجارية الحديثة، ولا ينبغي أن يرخص لكل مكلف أن يختار ما شاء من أقوال على ما تشتهيه نفسه في مجال حياته حتى أنه يعمل يومًا في مسألة واحدة بقول الشافعي رحمه الله حينما وافق غرضه، ويختار قول أبي حنيفة رحمه الله غدا في عين هذه المسألة لما رأى أن قول الشافعي رحمه الله لا يوافق غرضه المطلوب اليوم، ولا يخفى أن اتباع الشريعة هو تكليف وتحمل المشاق – فلا يخلو أي حكم من أحكام الشريعة من المشقة كليًّا – بل شيء من الكلفة موجود في كل حكم – نعم {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: ٢٨٦] فالحرج والعسر والمشقة مرفوعة.