وقال ابن عابدين في حاشيته رد المحتار على الدر المختار:
(قوله: وإن الرجوع......إلخ) صرح بذلك المحقق ابن الهمام في تحريره، ومثله في أصول الآمدي وابن الحاجب وجمع الجوامع، وهو محمول كما قال ابن حجر والرملي في شرحيهما على المنهاج وابن قاسم في حاشيته على ما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لا يقول به أحد من المذهبين، كتقليد الشافعي في مسح بعض الرأس، ومالك في طهارة الكلب في صلاة واحدة، وكما لو أفتى ببينونة زوجته بطلاقها مكرها ثم نكح أختها مقلدًا للحنفي بطلاق المكره – ثم أفتاه شافعي بعدم الحنث، فيمتنع عليه أن يطأ الأولى مقلدًا للشافعي والثانية مقلدًا الحنفي – أو هو محمول على منع التقليد في تلك الحادثة بعينها لا مثلها كما صرح به الإمام السبكي وتبعه عليه جماعة ... على أن في دعوى الاتفاق نظر فقد حكي الخلاف فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه مقلدًا فيه غير إمامه مستجمعًا شروطه – ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر (١) .
فالحاصل أن القول ببطلان الرجوع عن التقليد بعد العمل ليس بمتفق عليه بل فيه خلاف – وأن التزام مذهب معين ليس بلازم. وحكى الزركشي مذاهب العلماء في هذه المسألة فقال:
هل يجب على العامي التزام تقليد مذهب معين في كل واقعة فيه وجهان – قال الكيا: يلزمه – وقال ابن برهان –: لا – ورجحه النووي في (أوائل القضاء) وهو الصحيح، فإن الصحابة رضوان الله عليهم لم ينكروا على العامة تقليد بعضهم من غير تقليد ... وقد رام بعض الخلفاء زمن مالك حمل الناس في الآفاق على مذهب مالك فمنعه مالك، واحتج بأن الله فرق العلم في البلاد بتفريق العلماء فيها فلم الحجر على الناس ... وذكر بعض الحنابلة أن هذا مذهب أحمد فإنه قال لبعض أصحابه: لا تحمل الناس على مذهبك فيحرجوا – دعهم يترخصوا بمذاهب الناس ... وقد كان السلف يقلدون من شاؤوا قبل ظهور المذاهب الأربعة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ((إن الله يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه)) .
(١) الدر المختار مع حاشية رد المحتار لابن عابدين ١ / ٧٥.