للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال الشيخ مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي:

اعلم أنه قد ذهب كثير من العلماء إلى منع جواز التقليد، حيث أدى إلى التليفق من كل مذهب، لأنه حينئذ كل من المذهبين أوالمذاهب يرى البطلان، كمن توضأ مثلاً ومسح شعرة من رأسه مقلدًا للشافعي ثم لمس ذكره بيده مقلدًا لأبي حنيفة فلا يصح التقليد حينئذ، وكذا لو مسح شعرة وترك القراءة خلف الإمام مقلدًا للأئمة الثلاثة، أو افتصد مخالفًا للأئمة الثلاثة ولم يقرأ مقلدًا لهم، وهذا وإن كان ظاهرًا من حيث العقل، والتعليل فيه واضح؛ لكنه فيه الحرج والمشقة على المسلمين خصوصًا على العوام الذين نص العلماء على أنه ليس لهم مذهب معين، وقد قال غير واحد: لا يلزم العامي أن يتمذهب بمذهب معين كما لو يلزم في عصر أوائل الأمة. والذي أذهب إليه واختاره القول بجواز التقليد في التلفيق لا بقصد تتبع ذلك، لأن من تتبع الرخص فسق، بل من حيث وقع ذلك اتفاقًا، خصوصًا من العوام الذين لا يسعهم غير ذلك فلو توضأ شخص مثلاً ومسح جزءًا من رأسه مقلدًا للشافعي فوضوؤه صحيح بلا ريب، فلو لمس ذكره بعد ذلك فقلد أبا حنيفة جاز ذلك؛ لأن وضوء هذا المقلد صحيح بالاتفاق، ولمس الفرج غير ناقض عند أبي حنيفة، فإذا قلده في عدم نقض ما هو صحيح عند الشافعي استمر الوضوء على حاله بتقليده لأبي حنيفة، وهذه هي فائدة التقليد، وحينئذ فلا يقال: الشافعي يرى بطلان هذا الوضوء بسبب مس الفرج والحنفي يرى البطلان لعدم مسح ربع الرأس فأكثر لأنهما قضيتان منفصلتان لأن الوضوء قد تم صحيحًا بتقليد الشافعي ويستمر صحيحًا بعد اللمس بتقليد الحنفي، فالتقليد لأبي حنيفة إنما هو في استمرار الصحة لا في ابتدائها (١) .

انتقد العلامة الفاريني الحنبلي تلميذ الشيخ العلامة الحنبلي على رأي أستاذه انتقادًا شديد فقال:

والذي أراه وأقول به معتمدًا على ما قرره الأشياخ، والعقل والنقل يساعده ببطلان ذلك كله لأن فيه مفاسد كثيرة، وموبقات غزيرة، وهذا باب لو فتح لأفسد الشريعة الغراء ولأباح جل المحرمات، وأي باب أفسد من باب يبيح الزنا وشرب الخمر وغير ذلك، فإن قلت: فما وجه إباحة الزنا؟ قلنا: يمكن أن يصدق الرجل امرأة لازوج لها ولا عدة أو بنتًا بالغة عاقلة فيراودها عن نفسه فتجيبه لذلك فيقلد أبا حنيفة في صحة عقدها على نفسها فإنه لا يشترط الولي فقد صحت ولاية هذه على رأي أبي حنيفة، ثم يقلد الإمام مالكًا في عدم اشتراط الشهود، فإنه لا يشترط الشهود كما نقل عنه، فهذا الرجل قد أمكنه أن يزني بامرأة ولا جرم عليه، كما قرره الأستاذ طيب الله ثراه، وهذا لا يمكن أن يقول به عاقل، فإن قلت: هذا ليس كالذي قرره الشيخ، قلت: بل عينه من غير نزاع، وكل من نازع سفسطة، ولقد كان بعض أشياخي أعزهم الله تعالى توقف في بطلان التلفيق فنازعته في ذلك ثم إني أتيته بعد بهذه الصورة فرجع عن قوله، وقال. التلفيق باطل. والقاعدة أن كل ما أدى إلى محظور فهو محظور وكل قول يلزم فيه إباحة محرم فهو مردود، والشيخ قدس الله تعالى سره وإن كان عظيم الشأن ثاقب الذهن والفطنة التامة لكنه قد يكبو الجواد، ومن خصائص هذه الأمة أن لا يوقر الصغير الكبير في الحق (٢) .


(١) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق للعلامة محمد سعيد الباني ص ١٠٠، طبع المكتب الإسلامي – بيروت ١٤٠١هـ.
(٢) عمدة التحقيق في التقليد والتلفيق ص ١٠١ – ١٠٢.

<<  <  ج: ص:  >  >>