للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهذا النوع أدنى من النوع الأول، لأن الحكم فيه متراخ، ففيه شبهة كونه حكمًا أصليًا في حق فاعله كالمسافر في رمضان، بخلاف النوع الأول فإن المحرم والحرمة قائمان، والحكم الأصلي ليس فيه شبهة، كونه حكمًا أصليا مثل استباحة الكفر للمكره (١) ، والأخذ بالعزيمة أولى لقوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: ١٨٤] .

٣- ما كان رخصة مجازًا، وهو ما وضع عنا من الإصر والأغلال، فالإصر مثل اشتراط قتل النفس في صحة التوبة، الذي كان على بني إسرائيل كما ذكر تعالى {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة: ٥٤] ، ومثل الأغلال وهي الأحكام الشاقة التي كانت في شرائع ما قبل الإسلام، كالقصاص للقاتل العمد أو الخطأ، ومثل قطع الأعضاء الخاطئة، ومثل قرض موضع النجاسة من الثوب دون غسله. وهذه كانت واجبة على بعض من سبقنا، ولم تجب علينا، فالحكم في حقنا ليس مشروعًا أصلاً. والمجازية فيه بعيدة عن حقيقة الرخصة، لأن أصله لم يبق مشروعًا، وهو أتم في المجازية (٢) .

٤- ما سقط حكمه مع كونه مشروعًا في الجملة، فهو بهذا شبيه بحقيقة الرخصة وأقرب إليها، فهو أقل مجازية من النوع الثالث، ومثاله ترخيص بيع السلم، فيما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ((أنه نهى عن بيع ما ليس عند الإنسان ورخص في السلم)) (٣) . ومثل أكل الميتة وشرب الخمر ضرورة، فإن حرمتهما ساقطة هنا، مع كونها ثابتة في الجملة وذلك لقوله تعالى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: ١١٩] ، فإنه استثناء من الحرمة، والنص غير محرم في حال الضرورة والمحرم غير قائم عند وجودها كذلك، وهذا فرق ما بينه وبين النوع الثاني، ومثل قصر الصلاة في السفر في حالة الأمن، مع أن الآية الكريمة تنص على أن القصر إنما يكون في حالة الخوف، قال تعالى {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: ١٠١] . وقد روى مسلم عن يعلى بن أمية قال: " قلت لعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) قول الله تعالى {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: ١٠١] ، فقال: " عجبت مما عجبت منه، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال ((صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته)) (٤) ، فقد فهم عمر رضي الله عنه أن التعليق بالشروط يوجب انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فأخذ الأحناف من ذلك أن التعليق بالشرط لا يدل على العدم عند عدم الشرط، خلافًا لغيرهم كفخر الإسلام البزدوي الذي قال: " إن انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط لازم ألبتة" (٥) .


(١) التلويح ٢ / ١٢٨ – ١٢٩.
(٢) التلويح ٢ / ١٢٩، وشرح منار الأنوار ٢٠١.
(٣) حديث مركب من حديث النهي عن بيع ما ليس عند الإنسان وقد رواه أصحاب السنن الأربعة ومن حديث " ورخص في السلم " (فتح القدير ٦ / ٢٠٥) .
(٤) رواه مسلم.
(٥) شرح مختصر الروضة ١ / ٤٦١، والتلويح ٢ / ١٣٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>