للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مفهوم الرخصة عند الحنفية:

قال الشيخ علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول (١) : الرخصة اسم لما تغير عن الأمر الأصلي، لعارض، إلى تخفيف وتيسير، ترفيهًا وتوسعة على أصحاب الأعذار. سواء كان التغيير في وصفه أو في حكمه.

ثم إنهم يقسمون الرخصة باعتبار الحقيقة والمجاز إلى قسمين رئيسيين، اعتمادًا على ما ذكره السرخسي في أصوله، والشيخ علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول، وغيرهما.

القسم الأول: رخص حقيقية، ويسمونها أيضًا: رخصًا ترفيهية، وهي التي تقع في مقابلة عزائم ما يزال العمل بها جاريًا، لقيام دليلها. وهذا القسم ينقسم إلى قسمين فرعيين:

١- ما يتغير حكمه مع بقاء الوصف الذي كان عليه من قبل. وبذلك يكون المشرع أباحه مع قيام السبب المحرم والحرمة معًا، وهو أعلى درجات الرخص. فكمال الرخصة كمال العزيمة، فكلما كانت هذه حقيقة كاملة من كل وجه كانت الرخصة في مقابلتها كذلك (٢) ، وذلك كاستباحة التلفظ بكلمة الكفر مع اطمئنان القلب بالإيمان، عند الإكراه على ذلك، أخذًا من قوله تعالى: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: ١٠٦] . لأن في امتناعه عن الفعل إتلاف ذاته صورة ومعنى، وفي إقدامه عليه إتلاف حق الشرع صورة لا معنى، حيث إن التصديق الذي هو الركن الأصلي في الإيمان باق على حاله. ومع ذلك فقد نص العلماء على تخييره بين الفعل والترك، بل رجح الحنفية الأخذ بالعزيمة، لأن إحياء النفس هنا وإن كان من الرخص الواجبة إلا أن ما يقابله، وهو التمسك بالعزيمة يعتبر من مواقف السمو والإباء والتمسك بالحق.

وقد جاء في السنة ما يؤيد الموقفين. فقد ورد أن مسيلمة الكذاب أكره رجلين من المسلمين على الكفر، فنطق أحدهما بكلمته فنجا، وأصر الآخر على الجهر بالحق فهلك، فقال صلى الله عليه وسلم فيهما: ((أما الأول فقد أخذ برخصة الله تعالى، وأما الثاني فقد صدع بالحق، فهنيئًا له)) (٣) . وقال صلى الله عليه وسلم في حديث آخر لعمار بن ياسر، بعد أن عذب وأجبر على شتم النبي والإشادة بآلهتهم: ((كيف تجد قلبك يا عمار؟)) قال: مطمئنًا بالإيمان. فقال صلى الله عليه وسلم: ((فإن عادوا فعد)) (٤) .


(١) ميزان الأصول في نتائج العقول: ص ٥٥.
(٢) الخبازي: المغني في أصول الفقه: ص ٨٧.
(٣) أخرجه ابن أبي شيبة – التفسير الكبير للرازي ٥ / ٣٥٦، التلويح على التوضيح ٣/ ٥٨.
(٤) أخرجه ابن جرير الطبري والبيهقي، واستشهد به غالب المفسرين.

<<  <  ج: ص:  >  >>