للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

٢- ما يسقط فيه الحظر والمؤاخذة جميعًا، وبذلك يكون المشرع استباح ترك الواجب إذا شق فعله، كاستباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض، أخذًا من قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: ١٨٥] . واستباحة قصر الصلاة من قوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء: ١٠١] . وكذلك استباحة الصلاة من قعود، إذا تعذر القيام وأخذًا من السنة – على أن الحنفية يرون أن قصر الصلاة في السفر عزيمة لا رخصة؛ أخذًا من حديث عائشة رضي الله عنها: ((فرضت الصلاة ركعتين ركعتين فزيدت صلاة الحضر وأقرت صلاة السفر)) (١) . ويرى الحنفية أيضا أن العمل بالعزيمة في هذا النوع الثاني أولى من العمل بالرخصة؛ لأن في الأخذ بالعزيمة نوع يسر، بناء على أن الصوم مع المسلمين في شهر رمضان أيسر من التفرد به بعد مضي الشهر. فإذا أضفنا إلى هذا اليسر ثوابًا يختص بالعزائم ترجح العمل بالعزيمة ما لم يضعفه الصوم، فإذا أضعفه كان الفطر أولى.

وهذا التقسيم الأول ليس خاصًا بالحنفية ولكن الخلاف في التسمية.

القسم الثاني: رخص مجازية، وتسمى رخص الإسقاط. وقسمها الحنفية إلى قسمين فرعيين:

١- ما وضع عن هذه الأمة، رحمة بها، وإكرامًا لها، من الأحكام الشاقة التي كانت مفروضة على الأمم السابقة، فشابهت الرخصة، فسميت بها. وذلك كقتل النفس لصحة التوبة، وقطع الأعضاء الخاطئة، وإيجاب ربع المال في الزكاة، وإحراق الغنائم، وتحريم الطيبات بسبب الذنوب، واشتراط الماء للتطهر من الجنابة والحدث، واشتراط مكان معين لقبول الصلاة (٢) .

ونحو هذا مما فيه إصر وأغلال (٣) وهو ما أشار إليه القرآن بقوله تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] . فتسمية هذه الأشياء رخصًا مجازًا، من حيث إنها كانت واجبة على غيرنا ولم تجب علينا، رحمة وتخفيفًا، فشابهت الرخصة، فسميت بها مجازًا. ولما كان الحكم غير مشروع في حقنا أصلاً لم تكن رخصة حقيقية بل مجازًا (٤) على اعتبار إضافة إلى الشرائع الماضية.

٢- ما شرع من العقود استثناءً من قواعدها العامة، دفعًا للحرج عن الناس (٥) وذلك كعقدي السلم والاستصناع فكل منهما شرع للحاجة إليه على خلاف القايس، لأنه بيع المعدوم، وبيع المعدوم غير صحيح. فقد جاء في الحديث: ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان لما ليس عنده ورخص في السلم))

فعقود هذا القسم من حيث إنها مشروعة في الجملة كانت شبيهة بالرخص الحقيقية، ومن حيث استثنائها مما ذكر كانت رخصًا مجازية؛ إذ ليس في مقابلتها عزائم. ومن أجل ذلك اعتبر هذا القسيم أقرب إلى الرخص الحقيقية من القسم الأول المتمحض للمجازية.

وبذلك يظهر أن هذه الأقسام الأربعة التي ذكرناها: نوعان من الحقيقة، الأول منهما أحق بكونه رخصة؛ ونوعان من المجاز، الأول منهما أتم في المجازية من الآخر.


(١) فتح الباري: ٢ / ٢٦٩، المنتقى: ١ / ٢٦٠، نيل الأوطار: ٣ / ٢٠٠.
(٢) الرخص الفقهية في القرآن والسنة النبوية.
(٣) المغني في أصول الفقه: ص ٨٨.
(٤) البخاري: كشف الأسرار ١ / ٦٤١، التلويح على التوضيح ٣ / ٨٦.
(٥) انظر أصول السرخسي: ص ١٢٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>