٢- إن هذه الأحكام الجزئية الخاصة قد شرعت لعذر شاق، أي يتعذر على بعض الناس القيام به؛ وليس لمجرد الحاجة أو لمشقة يسيرة. فالفطر قد شرع لعذر شاق هو السفر والمرض، وهما مظنة المشقة؛ وأكل الميتة قد شرع لعذر شاق هو حالة الضرورة؛ والنطق بكلمة الكفر شرع لعذر شاق هو الإكراه. إذ في التكليف مع الإكراه، بإتلاف نفس أو عضو؛ أو مع الضرورة، بخوف الهلاك – مشقة شديدة.
٣- إن هذه الأحكام يقتصر فيها على موضع الحاجة. ذلك أنها أحكام جزئية خاصة، فهي أحكام تخص بعض المكلفين دون بعض، وتطبق في حالات خاصة، وبذلك كانت دائرة مع أسبابها وجودًا وعدمًا، فإذا وجدت أسباب الترخص جازت مخالفة التكليف الكلي العام، وإذا انتفت هذه الأسباب وجب الرجوع إلى هذه الأحكام. فأسباب الترخص تمنع من التكليف ببعض الأحكام الكلية العامة، أو تجيز مخالفته مع قيامه، وتمنع من العقاب على هذه المخالفة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن تقسيم الحكم إلى عزيمة ورخصة ليس من خاصيات المذاهب المتقدمة، بل هي مسائل تعرضت إليها بعض المذاهب الإسلامية الأخرى، كالزيدية والإمامية والإباضية التي تقسم الحكم إلى عزيمة ورخصة، وتعرفها بتعاريف لا تختلف كثيرًا عما ذهب إليه أصحاب تلك المذاهب في مفهوم كل من الرخصة والعزيمة، وإن اختلفت التقسيمات والعناوين الثانوية التي أعطيت لهذه التقسيمات.
الأدلة العامة للعزائم والرخص:
في اعتقادي أن العزائم لا تحتاج إلى تقصي أحكامها، والبحث عن أدلة مشروعيتها؛ لأن كل حكم في الشرع الإسلامي لابد له من دليل من كتاب الله أو سنة رسوله، أو الإجماع، أو القياس؛ إذ ليس لأحد أن يحلل أو يحرم، ولا أن يوجب حكمًا؛ بغير دليل من قرآن أو سنة أو إجماع أو نظر.
ولذلك فلا فائدة في البحث عن دليل كل حكم يعتبر عزيمة، لأن هذا العمل هو من خصائص علم الفقه. فهذا العلم تكفل بالبحث عن كل دليل لأي حكم من الأحكام.
أما الرخص فهي على عكس ما في العزائم من صفات، فقد اجتمع في الرخص الخفاء مع الدقة، والخصوص مع الاستثناء، والاعتدال مع اليسر. وإذا كان لابد من إقامة الدليل على أصل تشريع كل رخصة، فلا بد للمستدل أن لا يهمل ما فهمه الأولون من الأدلة التي يقدمها، وأن لا يستغني عن التعرف على ما كانوا عليه في العمل بها، وتقصي أحكامها.
والذي مارس كتب الفقه يعلم علم اليقين أن أدلة ثبوت الرخص ومشروعيتها بلغت مبلغ القطع في غالب الأحيان، إذ هي تعتمد على أدلة نقلية من القرآن والسنة وآثار الصحابة والقواعد العامة، وعلى نتائج استقراء النوازل التي تمت في العصور المختلفة.