للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فهذه النصوص تدل على رفع الحرج والإثم عن مخالفة التكاليف، وذلك بالعمل بالرخصة وترك العزيمة، أو تقرر مغفرة ما يترتب على هذه المخالفة من إثم وذنب. وليس في هذه النصوص ما يدل على طلب الرخصة، طلبًا جازمًا أو غير جازم.

الثاني: أن الرخصة أصلها التخفيف عن المكلف، ورفع الحرج عنه، حتى يكون من ثقل التكليف في سعة، واختيار بين الأخذ بالعزيمة والأخذ بالرخصة. وهذا أصله الإباحة. كقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة: ٢٩] ، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: ٣٢] .

الثالث: أنه لو كانت الرخص مأمورًا بها ندبًا أو وجوبًا لكانت عزائم لا رخصًا، والحال بضد ذلك، إذ الواجب هو: الحتم واللازم الذي لا خيرة فيه، والمندوب كذلك من حيث مطلق الأمر. ولذلك لا يصح أن يقال في المندوبات: إنها شرعت للتخفيف والتسهيل من حيث هي مأمور بها. فإذا كان الأمر كذلك ثبت أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين (١) .

وبهذا يظهر أن دليل الرخصة عند الشاطبي: يقتصر على إباحة مخالفة الحكم الكلي العام، وهو العزيمة، ويرفع الحرج والإثم عن هذه المخالفة، أو يقرر العفو والمغفرة عن المخالف، دون أن يتعرض لطلب الرخصة، طلبًا جازمًا أو غير جازم. وفي الحالات التي يجب العمل فيها بالرخصة، بحيث يعد ترك العمل بها إثمًا ومعصية، يقرر الشاطبي أن هذا الوجوب لم يؤخذ من دليل الرخصة، إذ الرخصة من حيث هي رخصة حكمها الإباحة دائمًا، وإنما استفيد الوجوب من دليل آخر، فوجب تناول المحرمات في حالة الضرورة (٢) .

وهذا لم يؤخذ من أدلة الرخصة، لأن هذه الأدلة لا تفيد إلا الإباحة، ورفع الإثم والحرج؛ وإنما استفيد الوجوب من قاعدة حفظ النفس التي استفيد حكمها من نصوص أخرى تفيد في مجموعها وجوب الحفظ.

ولهذا فإن الفعل الواحد يمكن وصفه بالرخصة وبالوجوب، إذا اختلف الاعتبار، ولم تتحد الجهة. فإساغة الغصة بالخمر، وتناول الميتة للمضطر، ونحو ذلك كله واجب، فهو من هذه الجهة عزيمة، ولا يسمى رخصة، لأنه راجع إلى أصل كلي، وهو وجوب المحافظة على النفس، ويعتبر رخصة من جهة رفع الحرج الذي يقتضيه الدليل المانع.


(١) الموافقات للشاطبي: ١ / ٢١٠.
(٢) أصول الفقه لحسين حامد حسان: ص ١٣١، سلم الوصول إلى نهاية السول: ١ / ١٢١، الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام: ١ / ٦٩.

<<  <  ج: ص:  >  >>