للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ترجيح العزيمة على الرخصة:

أما الأخذ بالعزيمة عند تخيير المكلف، فله مرجحات:

أولها: أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف على مقطوع به ومتفق عليه، وورود الرخصة وإن كان مقطوعًا به لكن سبب الترخص لا تحقق له، لأن مقدار المشقة المباح من أجله الترخص غير منضبط، وكل مجال للظنون لا مجال فيه للقطع، فاقتضى هذا ألا يقدم المكلف احتياطًا على الرخصة مع بقاء احتمال السبب (١) .

ثانيها: أن العزيمة راجعة إلى أصل في التكليف كلي، لأنه مطلق عام لجميع المكلفين. والرخصة راجعة إلى جزئي بحسب بعض المكلفين ممن له عذر، وبحسب بعض الأوقات وبعض الأحوال في أهل الأعذار لا في كل وقت، ولا في كل حالة، ولا لكل أحد. فهو كالعارض الطارئ على الأمر الكلي. والقاعدة التي جرى عليها العمل: أنه إذا تعارض أمر كلي وأمر جزئي فالكلي هو المقدم، لأن الجزئي يقتضي مصلحة جزئية، والكلي يقتضي مصلحة كلية، ولا ينخرم نظام العالم بانخرام المصلحة الجزئية، بخلاف ما إذا قدم اعتبار المصلحة الجزئية على المصالح الكلية، فإن النظام يختل باختلالها.

وفي هذا السياق فإن العزيمة أمر كلي ثابت لكل مكلف، والرخصة دون ذلك، لأن مشروعيتها أن تكون جزئية، وحيث يتحقق الموجب فالأولى لمن أراد أن ينجو من العهدة الرجوع إلى الكلي، وهو العزيمة (٢) .

ثالثها: ما جاء في الشريعة من الأمر بالوقوف مع مقتضى الأمر والنهي مجردًا، والصبر على حلوه ومره، وإن انتقض موجب الرخصة: من ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: ١٧٣] . فهذا مظنة التخفيف، فأقاموا على الصبر والرجوع إلى الله، فأثنى عليهم بقوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: ١٧٣] .

ومنه قوله تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: ١٠] وبعد أن ذكر المشهد كاملاً مدح الصابرين على هذا كله بقوله تعالى: {رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: ٢٣] .

فقد مدحهم الله بالصدق والثبات مع حصول الزلزال الشديد والأحوال الشاقة التي بلغت القلوب فيها الحناجر، وهي حالات يدخل بها المكلف في منطقة التخفيف عادة، ولكن أولئك الرجال ثبتوا على الحق، وماتوا عليه، فرفعهم الله بهذا الثبات، وهو يدل على أن الأخذ بالعزيمة يترجح على الأخذ بالرخصة. وأمثال ذلك كثير في مدح الصابرين الثابتين على الامتثال في المواضع التي أجاز الله فيها اتباع الرخص، وسماهم الله صادقين، لأخذهم بالعزيمة دون الرخصة (٣) .

رابعها: أن العوارض الطائرة وأشباهها مما يقع للمكلفين من أنواع المشاق هي مما يقصده الشارع في أصل التشريع، وذلك لأن المقصود في أصل التشريع من المشقة ما هو جار على توسط مجاري العادات.

وكونه شاقا على بعض الناس أو في بعض الأحوال مما هو علي غير المعتاد، فإن هذه المشقة لا تخرجه تمامًا عن أصل وضعه من أن يكون مقصودًا له، لأن الأمور الجزئية لا تخرم الأصول الكلية، وإنما تستثنى بحسب الحاجيات. والبقاء على الأصل من العزيمة هو المعتمد الأول للمجتهد، والخروج عنه لا يكون إلا لسبب قوي. ولذلك لم يعمل العلماء بمقتضى الرخصة الخاصة بالسفر في غيره كالصنائع الشاقة في الحضر مع وجود المشقة التي هي العلة الحقيقة في مشروعية الرخصة.


(١) ابن عبد البر: التمهيد: ٢ / ١٧٢ – ١٧٣.
(٢) الموافقات للشاطبي: ١ / ٢٢٠، أصول الفقه للخضري: ص ٨٨ و ٨٩، الرخص الفقهية من القرآن والسنة: ص ٦٤٦ – ٦٤٧.
(٣) مختصر تفسير ابن كثير: ٢ / ١٧٦ – ١٧٧ – الموافقات: ١ / ٢٢٠ – ٢٢١.

<<  <  ج: ص:  >  >>