للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الرخصة أمر اعتباري إضافي:

إن الرخص إضافية أي أن كل واحد من المكلفين فقيه نفسه في الأخذ بها أو في عدمه، وبيان ذلك:

أولاً: إن الرخص لها أسباب متعددة. وإذا أخذنا من جملة الأسباب المشقة التي تعتبر سببًا هامًا فلا يمكن أن نعتبر المشقة بمثابة واحدة، إذ هي تختلف قوة وضعفًا بحسب الأحوال والأزمان والأعمال والأشخاص والعزائم، فليس من يسافر وحده راجلاً في مفازة وحر شديد كمن يسافر راكبًا في رفقة وأرض مأمونة واعتدال هواء؛ وليس قوي الجسم والشجاع كضعيف الجسم والجبان، وكذا المرضى تختلف أحوالهم وتحملهم وصبرهم، إلى غير ذلك مما لا يمكن ضبطه وتحديده بحدود يصح اطرادها في جميع الناس.

لذا أقام الشارع في جملة منها السبب مقام العلة فاعتبر السفر وأقامه مقام المشقة لأنه أقرب مظان وجود المشقة، وترك كثيرًا منها موكولاً إلى الاجتهاد كالمرض، لأن أسباب الرخص ليست داخلة تحت قانون أصلي ولا ضابط محصور، فاعتبر الشارع كل مكلف في الأخذ بالرخص فقيه نفسه (١) . فإن من الناس من يقوى في مرضه على ما لا يقوى عليه الآخر، فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة إلى أحد الشخصين دون الآخر. وإذًا ليست أسباب الرخص بداخلة تحت قانون أصلي مطرد، فهو إضافي بالنسبة لكل مكلف. ورب مضطر قد اعتاد الصبر على الجوع والخصاصة فلا تختل قواه ومداركه بفقد الطعام، بل تلحقه المشقة فقط، في حين تختل بفقده حال غيره؛ فهذا يجب عليه الترخص، والأول يكون مخيرًا فيه إذا خلا عن المرجح.

ثانيًا: ومما يدل على أن الرخص إضافية ما جاء في وصال الصيام، وقطع الأزمان في العبادات؛ فإن الشارع أمر بالرفق رحمة بالعباد، ثم فعله النبي صلى الله عليه وسلم، علمًا بأن سبب النهي وهو الحرج والمشقة مفقود في حق الأنبياء، ولذلك أخبروا عن أنفسهم أنهم مع وصالهم الصيام لا تصدهم هذه العبادة عن حوائجهم، ولا تقطعهم عن سلوك طريقهم؛ فلا حرج في حقهم، وإنما الحرج في حق من يلحقه الحرج، حتى يصده عن ضروراته وحاجاته. وقد ((نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم الوصال، لما روي أنه كان يواصل الصيام أربعين يومًا، وأراد أصحابه الاقتداء به، فأنكر عليهم ذلك، فقال له رجل: إنك تواصل يا رسول الله، فقال: " وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني ")) (٢) . واعتبر هذا الصيام خاصا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما يؤيد أن الرخص إضافية تختلف قوة وضعفًا بحسب الأحوال والأزمان والأشخاص والعزائم.

ويشهد لهذا الرأي الذي جعل لكل من المرتبتين رجالاً: ما ثبت من أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يسافرون مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، فمنهم الصائم ومنهم المفطر، فلا يعيب هذا على هذا، وفي رواية مالك عن أنس، قال: ((سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم.)) (٣)


(١) الموافقات للشاطبي: ١ / ٢١٣ – ٢١٤، أصول الفقه للعربي اللوة: ص ٧٤.
(٢) استشهد به صاحب المنار حافظ الدين النسفي، وخرجه الشيخ محمد عبد الحليم اللكنوي: ١ / ٣٦.
(٣) التمهيد لابن عبد البر: ٢ / ١٦٩ – ١٧٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>