للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

تتبع الرخص وموقف العلماء منه

لقد تقدم لنا في أول البحث أن رفع الحرج هو من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن الشرع لم يأت بما يشق أو يعنت، بل شرع من الأحكام الأصلية والرخص ما يتناسب مع أحوال المكلفين، وأن المشقة التي تستوجب الرخص ليست هي المشقة المعتادة المألوفة، وإنما هي المشقة غير المعتادة التي تشوش على النفوس في تصرفها – كما يقول الشاطبي – ويقلقها هذا العمل بما فيه من هذه المشقة (١) .

ورفع الحرج أو اليسر في الإسلام وإن كان شاملاً لجميع أحكام الشريعة، وفي كافة مجالاتها إلا أنه ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة واقعة في طريق الامتثال لأوامر الله، تعين على تحقيق الغاية. فالإسلام هو الاستسلام لأوامر الله، والانصياع لشرعه، وتحقيق مراد الشرع كذلك، من جلب المصالح ودرء المفاسد، فإن المقصد العام من التشريع هو حفظ نظام العالم، واستدامة صلاحه بصلاح المستخلفين فيه، وفي عقيدتهم، وعبادتهم، وكافة شؤون حياتهم، وما بين أيديهم من موجودات العالم الذي يعيشون فيه.

فالذي يتلمس التخفيفات ويتتبع مواطن الرخص ورفع الحرج بعيدًا عن الغاية الحقيقية من تمام العبودية وخالص الخضوع والطاعة لله وحده والسعي في جلب المصالح ودرء المفاسد، وغايته أن يأخذ بالسهل من الأمور الذي قد يؤدي إلى الانسلاخ من الأحكام والابتعاد عن الشرع، والتهاون بمسائل الحلال والحرام في المطاعم والمشارب والمعاملات، مدعيًا أن لا حرج في الدين، فقد أخطأ وضل السبيل، لأنه لا يجوز أن تنقلب الوسائل غايات أو تتغلب الوسائل على الغايات (٢) .

ولا شك أن الرخص المباحة المتفق على صحتها، وسلامتها من التهاون والتلاعب وسوء النية أو الجهل وعدم التحري، هي مخارج من الحرج، ورخص تفضل الله بها على عباده للتخفيف عنهم من مشقة التكاليف وقت الاحتياج لذلك، وإزالة الحرج عنهم في الدين تحقيقًا لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] وقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] وقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: ٢٨٦] .


(١) الموافقات للشاطبي: ٢ / ٨٤.
(٢) رفع الحرج في الشريعة الإسلامية: صالح بن حميد: ص ١٤.

<<  <  ج: ص:  >  >>