للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما الرخص المختلف فيها فيمكن الأخذ بها عند الضرورة والحرج الشديد إن ترجح دليلها وتساوى مع دليل بطلانها، خصوصًا للمضطر المحرج، فيجوز الإفتاء بها له لإخراجه من الضيق والحرج، ولإبقاء حرمة الدين في نفسه. وهذا مقصد هام من مقاصد الشرع وهو المحافظة على حرمة الدين في نفوس الناس.

فينبغي أن يكون عند

المسلم من الموانع ما يثنيه عن الإقدام على مواطن الرخص، والأخذ بالأيسر في كل مسألة. فإن هذا يوشك أن يتخذ آيات الله هزؤًا.

قال سليمان التميمي لمن سأله في هذا الباب: " إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله ". قال ابن عبد البر: " هذا إجماع لا أعلم فيه خلافًا " (١) . وقال الشاطبي: " وهذا مما لا خلاف فيه بين المسلمين ممن يعتد بهم في الإجماع، أنه لا يجوز ولا يسوغ لأحد أن يفتي في دين الله إلا بالحق الذي يعتقد أنه حق، رضي بذلك من رضيه وسخطه من سخطه. وإنما المفتي مخبر عن الله تعالى في حكمه، فلا يخبر عنه إلا بما يعتقد أنه حكم به أو أوجبه، والله تعالى يقول لنبيه عليه الصلاة والسلام: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: ٤٩] .

فكيف يجوز لهذا المفتي أن يفتي بما يشتهي، أو بما يرضي المستفتي؟ (٢) .

وهذا الكلام وما سبقه يدل على أن تتبع الرخص قد يحصل من الشخص نفسه، وقد يحصل من المفتي الذي لا يتقصى مقاصد من يستفتيه، فيبدي له في كل قضية أيسر ما قيل به فيها، وفي هذا وذلك نوع من التحيل على الشرع؛ وقد اتفق العلماء على حرمته.

وقد أعطى ابن قيم الجوزية قضية الحيل الشرعية حقها من البيان في كتابه " إعلام الموقعين " وأنهى كتابه بإرشادات قيمة وفوائد جليلة تتعلق بالإفتاء والمفتين وقال في الفائدة التاسعة والثلاثين: " لا يجوز للمفتي تتبع الحيل المحرمة والمكروهة، ولا تتبع الرخص لمن أراد نفعه، فإن تتبع ذلك فسق وحرم استفتاؤه".

فإن حسن قصده في تخريج جائز لا شبهة فيه ولا مفسدة، لتخليص المستفتي بها من حرج، جاز ذلك، بل استحب. وقد أرشد الله تعالى نبيه أيوب إلى التخلص من الحنث بأن يأخذ بيده ضغثًا (قبضة ريحان أو قضبان) فيضرب بها المرأة ضربة واحدة. وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيع التمر بدراهم ثم يشتري بالدراهم تمرًا آخر فيتخلص من الربا.


(١) الفتاوى الكبرى لابن تيمية: ٣ / ١٧٩. مراتب الإجماع: ص ١٧٥.
(٢) الموافقات: ٤ / ٩٠.

<<  <  ج: ص:  >  >>