للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فأحسن المخارج ما خلص من المآثم، وأقبح الحيل ما أوقع في المحارم أو أسقط ما أوجبه الله ورسوله من الحق اللازم (١) .

ونقلوا عن الإمام أحمد، أنه قال: لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ، وأهل المدينة في السماع، وأهل مكة في المتعة، كان فاسقًا (٢) .

كما نقلوا عن إسماعيل القاضي أنه قال: دخلت على المعتضد فرفع إلي كتابًا لأنظر فيه، وقد جمع فيه صاحبه الرخص من زلل العلماء، وما احتج له كل منهم. فقلت: مصنف هذا الكتاب زنديق. فقال: ألم تصح هذه الأحاديث؟ قلت: من أباح المسكر لم يبح المتعة، ومن أباح المتعة لم يبح الغناء والمسكر. وما من عالم إلا وله زلة. ومن جمع زلل العلماء ثم أخذ بها ذهب دينه (٣) .

وبهذا نرى أن للرخص مقاصد وأهدافًا، هي: التخفيف ونفي الحرج في الدين. وقد شرعت لأجل ما يطرأ على المكلف من عجز أو مشقة يتعذر عليه معها الإتيان بالأحكام الأصلية بسهولة ويسر، فينتقل إلى الأحكام التي شرعت لأهل الأعذار. فهذه مجالات الرخص.

ويتبين أن الإغراق في تتبع الرخص، والأخذ بالأقوال الضعيفة من كل مذهب، دون تفريق بين غثها وسمينها، ودون نظر إلى ما فوت مقصد الشارع منها وما لم يفوته وبدون تقيد بالنيات والمقاصد التي هي روح العمل الخالص لوجه الله، في شأنه أن يؤدي إلى إلغاء الشريعة ونقضها بالتحيل عن طريق تتبع الرخص. فإن كل ممنوع يمكن التحيل عليه لإخراجه في صورة الجائز، وهذا ما لا يمكن السماح به.

إن تتبع الرخص يمكن أن يرادف في بعض الأحيان ما تعارف الفقهاء على تسميته بالحيل. لأن الرخصة إذا وجد سببها، سواء كان ضرورة أو مشقة أو مرضًا أو غير ذلك، فهي مشروعة لا تتقيد بعدد ولا مكان أو زمان.

فإذا سافر المكلف مثلاً في رمضان قصد الإفطار مدة الصيام، والقضاء بعد ذلك في المدة التي تناسبه، فهذا لا يعتبر صاحب مشقة، وإنما يعتبر فارًا من أداء رمضان في وقته، وقد اتخذ السفر ذريعة للإفطار، وحيلة لعدم القيام بهذا الواجب في وقته. ومذهب الإمام مالك صريح بأن السفر المبيح للإفطار في رمضان إنما هو سفر الطاعة، وهذا السفر ليس بسفر طاعة، فلا يجوز به الفطر في رمضان، فهو من التحيل الممنوع الذي أريد به إخراجه في صورة الجائز، إذ هو يؤدي إلى إلغاء الشريعة ونقضها (٤) .


(١) إعلام الموقعين: ٤ / ٢٢٢.
(٢) الأحكام: ٦ / ١٧٩.
(٣) الأحكام: ٦ / ١٧٩.
(٤) الحيل الفقهية في المعاملات المالية: ص ١١٧.

<<  <  ج: ص:  >  >>