للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإذا قلد المكلف بعض أقوال من المذهب الحنفي التي تبيح شرب نبيذ غير العنب فهذا لا يسمى اصطلاحًا رخصة، ولكنه تخير المقلد من أحكام المذاهب ما فيه سهولة تبيح له ما كان ممنوعًا في مذهبه.

قال الشاطبي: فإذا تسبب المكلف في إسقاط ذلك الوجوب عن نفسه، أو في إباحة ذلك المحرم عليه، بوجه من الوجوه، حتى يصير ذلك الواجب غير واجب في الظاهر، والمحرم حلالاً في الظاهر، فهذا التسبب يسمى حيلة وتحيلاً. كما لو دخل في وقت صلاة عليه في الحضر، فإنها تجب عليه أربعًا، فأراد أن يتسبب في إسقاطها كلها، بشرب خمر أو دواء مسبت، حتى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه (١) ، أو أراد أن يسقط بعضها اثنتين، بإحداث سفر قصر.

ولهذا اعتبر الفقهاء أن تتبع الرخص مما يتنافى مع مقصد الشارع من شرع التخفيف عمومًا، والرخص بصفة خاصة، ولا يكون ذلك إلا من ضعيف الإيمان، غير المتفهم لمقاصد الشريعة وأهدافها ومراميها. لأن التذبذب بين المذاهب للأخذ من كل مذهب أسهله وأيسره أو تخفيفه أو ترخيصه؛ كل ذلك يعتبر عبثًا في الدين، لا يقره دين الله الذي جاء لمصلحة العباد في المعاش والمعاد (٢) .

وقال الإمام الشاطبي: فإذا صار المكلف في كل مسألة عنت له يتبع رخص المذاهب، وكل قول فيها وافق هواه، فقد خلع ربقة التقوى، وتمادى في متابعة الهوى، ونقض ما أبرمه الشارع وأخر ما قدمه (٣) .

وهكذا رأينا أن الحيل وتتبع الرخص التي قامت على هدم أصل شرعي، أو نقض مصلحة شرعية، قد ذمها علماء الدين قاطبة، وإن يكن بينهم خلاف فيها فإنما هو في مدى انطباق ضابط ما يحرم من الحيل على مسائلها، وفي أنها إذا وقعت تكون نافذة أم لا مع القول بالتحريم في حال النفاذ.

ويمكن القول على وجه كلي، بأن الكل قائل بالتحريم. وأن مالكًا وأحمد يضمان إبطال الحيل في أحكام الدنيا، وأن أبا حنيفة والشافعي وإن قالا بالتحريم فذلك لا يلتزم الإبطال وعدم النفاذ دائمًا. فالخلاف بين الفريقين في دائرة ضيقة هي نفاذ هذه التصرفات في أحكام الدنيا ظاهرًا، على ما يقول الحنفية والشافعية، أو إبطالها وعدم نفاذها على ما يقوله المالكية والحنابلة. ولهذا قال ابن تيمية في إقامة الدليل: ولا يجوز أن تنسب هذه الحيل إلى أحد من الأئمة، ومن نسبها إلى أحد منهم فهو جاهل بأصولهم ومقاديرهم ومنزلتهم في الإسلام.


(١) الموافقات للشاطبي: ج ٢ – ص ٢٨٠.
(٢) الموافقات للشاطبي: ج ٢ – ص ٢٧٢.
(٣) الموافقات للشاطبي ج ٢ صـ ٢٧٢

<<  <  ج: ص:  >  >>