للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وقد ذكر الفخر الرازي المسألتين منفصلتين في المحصول، ونقل القول فيهما بالجواز، والقول بالمنع مطلقا – وهو رأي أكثر المحققين – وقال: إن الحق هو التفصيل، وقد أطال في بيان هذا التفصيل، وخلاصته (١) :

إن الحكم المختلف فيه، إما أن يكون متعلقا بمحل واحد، أو متعلقا بأكثر من محل، وبين المحلات ارتباط، وأحد القولين هو ثبوت الحكم في أحد المحلين وعدم ثبوته في المحل الأخر، والقول الثاني بعكسه، أو متعلقا بأكثر من محل، وأحد القولين ثبوت الحكم في المحلين، والقول الآخر عدم ثبوته فيهما، أو متعلقا بأكثر من محل، وأحد القولين ثبوت الحكم في محل وعدم ثبوته في المحل الآخر، والقول الثاني هو ثبوت الحكم في كل من المحلين، أو عدم ثبوته فيهما، ويمثل هذا التفصيل تقدم صدر الشريعة في التنقيح والتوضيح (٢) .

ومن أمثلة الحكم المختلف فيه، المتعلق بمحل واحد:

١- ميراث الجد مع الإخوة. اختلف فيه على قولين: أحدهما أن له الميراث وحده، والثاني إنه يقاسم الإخوة.

والقولان مشتركان في أمر واحد حقيقي شرعي مجمع عليه، وهو ميراث الجد وعدم حجبه بهم، فالقول بحجبه بهم، إبطال لما أجمعوا عليه.

٢- امرأة الغائب إذا أخبرت بوفاة زوجها، فتزوجت بآخر وولدت منه، ثم ظهر زوجها الأول. قال أبو حنيفة يثبت نسبه من الأول. الشافعي: يثبت نسبه من الثاني.

فالقول بعدم ثبوت نسبه منهما، أو بثبوت نسبه منهما مخالف لما أجمع عليه من ثبوت نسبه من أحدهما.

ومن أمثلة الحال الأولى من أحوال تعدد المحل: احتجام المتوضئ ومسه المرأة بلا شهوة، وقال أبو حنيفة ينتقض وضوؤه بالاحتجام ولا ينتقض بالمس، وقال الشافعي بالعكس، فالقول بعدم الانتقاض بهما، أو القول بالانتقاض بهما قول ثالث ليس فيه إبطال لحكم شرعي مجمع عليه، وهو موافق لكل من المذهبين في حكم، واتفاق القولين على افتراق الحجامة والمس ليس اتفاقا على أمر شرعي، وإن قيل: إن القولين قد اتفقا على بطلان الطهارة، وعدم جواز الصلاة ممن احتجم ومس المرأة، قيل له: إنه إجماع مركب، إذ فيه الاتفاق على الحكم مع الاختلاف في العلة، فلا تجوز عند الحنفية للاحتجام، وعند الشافعي للمس، فكل من الحكمين منفصل عن الآخر، لا تعلق له به.

ومن أمثلة الحال الثانية من أحوال هذا التعدد: ميراث الأم مع الأب وأحد الزوجين. فقد اختلف في قدره، فقيل: للأم ثلث الكل قبل فرض أحد الزوجين، وهو قول ابن عباس. وقيل: إن لها ثلث الباقي بعد هذا الفرض، وهو قول عامة الصحابة. فالقول بأن للأم ثلث الكل مع الزوج، وثلث الباقي مع الزوجة، قول ثالث، وهو قول ابن سيرين. والقول بأن لها ثلث الباقي مع الزوج وثلث الكل مع الزوجة قول ثالث أيضا، وهو قول شريح.

ومن أمثلة الحال الثالثة من أحوال هذا التعدد: الصلاة في جوف الكعبة. اختلف فيها. فقال الشافعي بجواز النفل دون الفرض، وقال أبو حنيفة بجوازهما. فجواز النفل حكم مجمع عليه، فالقول بعدم جوازهما أو بجواز الفرض دون النفل – مخالف لحكم مجمع عليه، وهو جواز النفل.


(١) المحصول في علم أصول الفقه. القسم الأول من الجزء الثاني: ص ١٧٩ إلى ٢١٠.
(٢) التنقيح والتوضيح: ٢/ ٣٢٨. مقال لأحمد فرج السنهوري حول التقليد والتلفيق.

<<  <  ج: ص:  >  >>