للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ولم يتلق العلماء النقلين بالرضى والقبول، بل ناقشوهما كما ناقشوا أصحاب هذا القول بالمنع بأنه لم يأت في الكتاب والسنة ولا في عمل المسلمين منذ عهد الصحابة إلى زمن تدوين المذاهب الفقهية، دليل يفيد لمنع، أو إنكار من منكر.

أقول – وبالله التوفيق -: هذا الرد على المانعين فيه نظر لأن العمل بسد الذرائع واقع، ولأن اتباع التشهي وهوى النفوس من المحظورات التي قام عليها أكثر من دليل، ثم لأن التلاعب بالديانة، وحل رباط التكليف عن طريق أي عمل كان أو يكون، لا أحد يقول بجوازه فهو إجماع وإن لم تجر فيه ترتيبات الإجماع على المنع وهو عمل لا يقدم عليه إلا فاسق، ولا يندفع نحوه المندفعون إلا متأثرين بنزعة الإباحية، وما أكثرهم اليوم في ظل مدنية المال والجنس.

كما لا أعتقد أن هؤلاء العلماء القائلين بالمنع، هم من هواة التشديد على الناس، حاشاهم أن يكونوا مدفوعين بسوى دافع الغيرة على الإسلام والمسلمين، ولو ضمن لهم ضامن أن تتبع الرخص لا يدخله التلاعب وهوى النفس، ولا يفضي أبدًا إلى الإباحية وحل رباط التكاليف الشرعية، ما ركب واحد منهم قاعدة سد الذرائع ولا قال بمنع التتبع للرخص، ولا بتفسيقه من أجل هذا العمل، والله أعلم وأحكم.

٢- المجيزون لتتبع الرخص

هم جماعة من العلماء راعوا قيام الشريعة الإسلامية على مبدأ التيسير والرافة بالمؤمنين كما نظروا إلى العمل الإسلامي منذ عهد الصحابة، فقد كان الناس يسألونهم ويستفتونهم فيما يحدث لهم من القضايا والمسائل، ولا يلتزمون صحابيا دون سواه، ولا يميزون بين فاضل ومفضول: بل يستفتون من شاؤوا كما نظروا إلى عمل الأئمة المجتهدين في كراهتهم حمل الناس على اتباع مذاهبهم، فقد عرض الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور على مالك أن يحمل الناس على كتابه الموطأ فأبى مالك ذلك.

استنادًا إلى هذه المرجحات وإلى غيرها قال جماعة من العلماء بالجواز، منهم الحنفية في الراجح من مذهبهم، ومنهم أغلب أصحاب الشافعي، ومنهم بعض المالكية أمثال الإمام القرافي، وهم يدلون بدليلهم القائم، بل هي أدلة كثيرة أسلفنا ذكرها في مبحث تأصيل الرخصة، ومن هذه الأدلة حديث البخاري عن أم المؤمنين عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: ((ما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين قط إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثمًا)) (١) .

قلت: مما لا شك فيه أن هؤلاء القائلين بالجواز تيسيرًا للمقلد على نفسه بتتبع الرخص في المذاهب، لأن مبدأ التيسير مشروع، لا يقولون بجواز هذا التتبع إذا أفسدوا به دينهم، وحلوا به رباط تكليفهم!

حاشاهم أن يقولوا بهذا، وحينئذ هم – عندي – على بساط واحد مع القائلين بالمنع.


(١) وأخرجه الترمذي كذلك بلفظ مقارب.

<<  <  ج: ص:  >  >>