للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

النوع الثالث

وهو أتم نوعي المجاز، فما وضع عنا من الإصر والأغلال التي كانت على من قبلنا من الأمم، وقد وضعها الله تعالى عنا كما قال تعالى: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: ١٥٧] وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: ٢٨٦] مع ثبوت الإجابة فهذا النوع غير مشروع في حقنا أصلا لا باعتبار وجود عذر شرعي في حقنا وإنما بسبب التيسير والتخفيف علينا، فكانت رخصة مجازًا؛ لأن الرخصة الحقيقية في الاستباحة مع قيام السبب المحرم، وهو منعدم هنا (١) .

النوع الرابع

ما سقط عن العباد مع كونه مشروعًا في الجملة فمن حيث سقط أصلاً كان مجازًا ومن حيث بقي مشروعًا في الجملة كان شبيهًا بحقيقة الرخصة إلا أنه دون القسم الثالث.

مثاله: العقود الاستحسانية التي جاءت على خلاف القياس، مثل عقد السلم، فقد ورد ((أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الإنسان ما ليس عنده)) (٢) ورخص في السلم، فاعتبرت صحة عقد السلم رخصة من باب المجاز، قال فخر الإسلام البزدوي: " وذلك أن أصل البيع أن يلاقي عينا، وهذا حكم باق مشروع لكنه سقط في باب السلم أصلا تخفيفًا حتى لم يبق تعيينه في السلم مشروعًا ولا عزيمة " (٣) .

وبعض الحنفية يقسم الرخصة إلى قسمين: رخصة إسقاط، ورخصة ترفيه.

فالأولى: أن يسقط حكم العزيمة ويكون حكم الرخصة وحده هو المشروع.

مثاله عندهم: قصر الصلاة في السفر حتى أنه لا يصح أداؤه من المسافر، أي أداء ما سقط عنه وهو الأربع؛ إذ لو صلاها كانت الركعتان الأخيرتان نافلة.

والثانية: أن يكون الحكمان ثابتين مثل الفطر في رمضان لعلة السفر فإن حكم العزيمة باق ودليله قائم (٤) .

فهذا هو منهج الأحناف في تقسيمهم للرخصة الشرعية وذكر أنواعها.

حكم الرخصة وضوابط العمل بها:

قلنا: إن الرخصة الحقيقية أصلها التخفيف عن المكلف ورفع الحرج عنه ليكون في سعة من ثقل التكليف، فيكون مخيرًا بين الأخذ بالعزيمة وبين الأخذ بالرخصة كالمسافر في رمضان فإنه مخير بين الأخذ بالعزيمة وهو الصوم وبين الأخذ بالرخصة وهي الإفطار، وذلك لأن النصوص الشرعية جعلت الرخصة في موضع الإباحة والتخيير بعد التكليف اللازم لأن اليسر من مقاصد الشريعة الإسلامية مصداقًا لقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: ١٨٥] وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: ٧٨] .

وهذا لا ينافي وجوب الرخصة أو ترجح الأخذ بها في بعض المرات، وذلك لاعتبارات خارجية تقتضي ذلك فكان الأنسب أن تفسر الإباحة المنسوبة إلى الرخصة برفع الحرج وتجويز الفعل ليكون المعنى أعم من أن يكون بالتساوي بين الفعل والترك كما هو في الإباحة الحقيقية أو بدون التساوي ليتناول الوجوب والندب، وقد ثبت أن الرخصة قد تكون واجبة وقد تكون مندوبة وهذا المعنى العام هو الظاهر من نصوص الرخص.


(١) راجع أصول السرخسي ١/ ١٢٠، وكشف الأسرار ٢/ ٣١٩ – ٣٢٠.
(٢) كما في حديث حكيم بن حزام الذي رواه الخمسة، راجع نيل الأوطار ٥ /١٧٥.
(٣) راجع كشف الأسرار ٢ /٣٢٢، واصول السرخسي ١ /١٢٠ – ١٢١.
(٤) راجع كشف الأسرار ٢ /٣٢٤، وأصول الفقه لأبي زهرة ص ٥٥.

<<  <  ج: ص:  >  >>