فكأن ابن قدامة يرى أن القياس هو المنع، ولأدلة القائلين بفساد العربون، فهذا يستفاد منه صراحة من كلام ابن قدامة، هذا أنه يرى العمل بحديث النهي عن بيع العربون ويرى أن المنع هو القياس ولذلك يؤول فعل عمر بما يتفق مع الحديث والقياس وهذا اتجاه سليم ففي كلام ابن قدامة هذا رد على هذا الدليل الذي استدل به المجوزون، والدليل الثالث للمجوزين: القياس على ما قاله سعيد وابن سيرين من أنه لا بأس إذا كره المشتري السلعة أن يردها ويرد معها شيئا، فقد قال الإمام أحمد: هذا في معناه، هذا أيضا منسوب للإمام أحمد، قياس بيع العربون على هذه الصورة، وسنتحدث عنها فيما بعد. وابن قدامة عندما ذكر هذا الدليل ولم يعلق عليه، سأتناوله بشيء من التفصيل فيما بعد، وبناء على هذا فإني أرجح المنع لقوة دليله، فإن حديث النهي أكثر رجال الحديث يصححونه، وحديث الجواز أكثرهم إن لم يكن كلهم يردونه. والغرر في بيع العربون متحقق، وأكل المال بالباطل في بعض صوره، وما اعتمد عليه المجوزون من أقوال بعض الصحابة والتابعين حتى ولو صحت عنهم لا يقوى على معارضة أدلة المانعين، أولها الحديث الذي صححه الإخوة الباحثون أيضا ذكروا هذه الأدلة، وحاولوا الرد على أدلة المانعين، وهم ثلاثتهم يجوزون بيع العربون، وإن كان في رأي بعضهم وهو رفيق المصرى لم يقل عبارة صريحة وإنما قال: أميل إلى المنع، مع أنه أكثر مَن أورد الأدلة في هذا الموضوع، ولهذا سأقرأ لكم ما اعترض به على أدلة المانعين مكتفيا به عن غيره، لأنه تضمنها وزيادة. " رأينا في بيع العربون: إنى أميل في العربون إلى اختيار مذهب الحنابلة المجيزين " أولا هو لم يختر مذهب الحنابلة، لأنه أصر على أن بيع العربون الجائز هو ما حددت فيه المدة، وهذا ليس رأي الإمام أحمد، لأنه قال بعد ذلك في أول كلامه قال: أختار مذهب الحنابلة بشرط أن تكون مدة الخيار معلومة، فخرج منهم، فهذا رأي مستقل، ثم يقول بعد ذلك: فلعل أهم حجة للمانعين هي أن بيع العربون يتضمن خيارا غير معلوم المدم، وهذه حجة قوية لذلك قيدنا جواز العربون بمعلومية المدة.
أما القول بمنع العربون باعتباره عوضا عن انتظار البائع فهذا يجاب عنه بما يلى:
ليس مسلما أن العربون هو مجرد تعويض عن الانتظار، يعني هذا ليس من الأدلة الرئيسية التي اعتمد عليها المانعون، فقد يلحق بالبائع ضرر نتيجة الخيار الممنوع للمشتري فكأنه يريد أن يجعله هو مقابلا للضرر، وقد رأينا أن هناك صورا لا يكون فيها ضرر بل يكون فيها نفع للبائع، ومع ذلك يحكم له بالعربون الذي أخذه، فكيف يتأتى هذا؟ ثم يمضي ليشعر بأن في هذا ضعفا فيقول: على فرض أن العربون تعويض الانتظار أو عوض للزمن فإن هذا العوض ليس مسلما أنه حرام، نعم هو حرام في القرض ولكنه جائز في البيع المؤجل فقد نص الفقهاء على أن للزمن قيمة ونحن في العربون أمام بيع لا أمام قرض. تشبيه العربون بالبيع المؤجل في غير محله، البيع المؤجل، المشتري يشتري السلعة ويأخذها ودخل الثمن فيها، أما هنا فالمشترى إذا ترك السلعة يترك السلعة ويدفع الثمن، فلا يمكن القياس على هذا.