والاستقامة التزام النظم التي شرعها الله في تحديد علاقة الإنسان بربه، وعلاقته بأخيه المسلم وبالناس جميعا، وعلاقته بالكون وبالحياة، وقد جاء القرآن ضابطا لأصول الاستقامة، مبينا لطرق العدل، مقابلا بين العمل الصالح والعمل السيء داعيا إلى الأخذ بما شرعه الله وأمر به ونبذ ما سواه، قال عز وجل:{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} . وقد رتبت أحكام الشريعة التي تضمنها الكتاب الكريم وفصلتها السنة النبوية الشريفة على مقاصد وغايات كانت أساس التحليل والتحريم ومدار الأمر والنهي، وهي صلاح كلها ورحمة كلها، لا يقدر المؤمن على مخالفتها وإن أباح له ذلك ما تواضع الناس عليه من القوانين، ففي الأخذ بالشريعة أخذ بالعدل والحق، وإرضاء لله ولرسوله، وبين الإيمان الصحيح والتزام شرع الله تمام التماسك والترابط في ذهن المسلم، لأن في ذلك طاعة الله الذي آمن به، وامتثالا لحكمه، ورفض الانقياد والاستسلام منه لما شرعه الله وقدره بحكمته يحتاج إلى معالجة العقيدة وإصلاحها، ويقتضي الأوبة إلى الله وتجديد الإيمان.
وقد قامت الدراسات والبحوث على بيان حقيقة الشريعة وأحكامها ومقاصدها وأهدافها فلمسنا ما بينها وبين غيرها من الشرائع والقوانين من تفاوت يدل عليه أنها الدين وقد كمل، وأنها النعمة وقد أتمها الله على عباده المؤمنين، وأنها الإسلام وقد ارتضاه رب العزة دينا للعالمين:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} .
وهكذا امتزجت الشريعة بالعقيدة وارتبطت بها، وكانت هذه أصلا والشريعة لها فرعا، وأدرك المؤمنون أن القطعي فيها الذي لا اجتهاد فيه معدودة مسائله، محدودة قضاياه، وأنها فيما سوى ذلك تخاطب العقل والوجدان والضمير والأخلاق، وتضع الأحكام على النحو الذي يخدم الجماعة ويحقق المصلحة العامة، وكان وما زال من المسلم عند كل مسلم أن الشريعة من الله، وأنها لا تزيغ ولا تحيف، وأنها صالحة لكل زمان ومكان. وقد اهتدى بها المسلمون وجربوها في علاج أوضاعهم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية، فوجودها الأصح والأنجح والأكمل بما فيها من قواعد كلية، وأصول عامة، ونظريات تشريعية، تواكب تطورات الزمان، وتراعي الملابسات والظروف، وتبني أحكامها على العلل والأسباب، وتعتمد القياس والاستحسان والاستصلاح.
وتجري في كل الأحوال بما يناسبها من الأخذ بالعزائم مرة، وبالرخص أخرى بحسب طاقات المكلفين وأنواع الضرورات والأعذار، وهي في كل ذلك متسمة باليسر لتحقيق الوسطية، وبلوغ قمة العدالة، مع حفظ كرامة الإنسان والبعد به دائما عن مساوئ الإفراط والتفريط في أداء الواجب واقتضاء الحق.