للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

المبحث الثاني: المذهب المالكي

قد أفسح المالكية مجالا واسعا لعقد المزايدة تعريفا، وأحكاما، ودراسة تفصيلية، ويقضي البحث بعرض نخبة من نصوصهم، واستخراج أحكامه من مدوناتهم المعتمدة.

وقد خصص له العلامة أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي فصلا مستقلا في كتابه المقدمات المهمدات ذاكرا فيه وصف هذا النوع من أساليب البيع، متضمنا لبعض الأمور التي تلابسه، وبيان أحكامها قائلا:

"وأما بيع المزايدة فيها أن يطلق الرجل سلعة في النداء، ويطلب الزيادة عليها فمن أعطى فيها شيئا لزمه، إلا أن يزاد عليه، فيبيع البائع من الذي عليه أولًا، يمضيها له حتى يطول الأمد، وتمضي أيام الصياح...." (١) .

وقد تعرض لحكمها في البيع، ودليل مشروعيتها وبعضا من أحكامها بقوله: ((قال محمد بن رشد: البيع على المزايدة جائز، خارج عما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسوم الرجل على سوم أخيه، والأصل في جوازه ما روي أن رجلا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكا إليه الفاقة، ثم عاد فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد جئت من عند أهل بيت ما أرى أن أرجع إليهم حتى يموت بعضهم. قال: ((انطلق هل تجد من شيء)) )) ؟ فانطلق فجاء بحلس وقدح، فقال: يا رسول الله، هذا الحلس كانوا يفترشون بعضه، ويلتفون ببعضه، وهذا القدح كانوا يشربون فيه.

فقال: (( ((من يأخذها مني بدرهم؟)) فقال رجل: أنا، فقال: من يزيد على درهم؟ فقال رجل آخر: أنا آخذهما بدرهمين، فقال: هما لك، فدعا بالرجل، فقال: اشتر بدرهم طعاما لك ولأهلك، وبدرهم فأسا، ثم إيتني، ففعل، ثم جاء فقال: انطلق إلى الوادي فلا تدعن فيه شوكا، ولا حطبا، ولا تأتي إلا بعد عشر. ففعل، ثم أتاه فقال: بورك فيما أمرتني به. فقال: هذا خير لك من أن تأتي يوم القيامة في وجهك نكت من المسألة، أو خموش من المسألة (الشك من بعض الرواة) .

والحكم فيه أن كل من زاد في السلعة لزمته بما زاد فيها إن أراد صاحبها أن يمضيها له بما أعطى فيها، ما لم يسترد سلعته فيبيع بعدها أخرى، أو يمسكها حتى ينقضي مجلس المناداة، وهو مخير في أن يمضيها لمن شاء ممن أعطى فيها ثمنًا، وإن كان غيره قد زاد عليه)) .

وعلل هذا بقوله:

"لأن حق صاحب السلعة أن يقول للذي أراد أن يلزمها إياه إن أبى من التزامها، وقال له: بع سلعتك من الذي زاد علي فيها؛ لأنك إنما طلبت الزيادة، وقد وجدتها: أنا لا أحب معاملة الذي زاد في السلعة عليك، وليس طلبي الزيادة فيها وإن وجدتها إبراء مني لك فيها.

فمعنى قول ابن القاسم: أرى البيع لهما لازما، وأراهما شريكين فيها إذا أسلم البائع السلعة لهما، ولم يكن له اختيار في أن يلزمها أحدهما دون صاحبه.

وكذلك قال أصبغ: إنها للأول. معناه: إذا قال: قد أمضيتها لمن هو أحق بها.

وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأن الأول لا يستوجب السلعة بما أعطى فيها إلا أن يمضيها له صاحبها، وكذلك الثاني فلا مزية فيها لأحدهما على الآخر.

وقول أصبغ استحسان، والوجه فيما ذكره من أنه طلب الزيادة، لا ما قد أعطي فيها، فالاختيار له لا يقبل الزيادة، فإذا قبل من الثاني ما أعطاه الأول كانا في وجه القياس سواء..." (٢) .


(١) المقدمات الممهدات، الطبعة الأولى، تحقيق سعيد أحمد عرابي وعبد الله بن إبراهيم الأنصاري، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام ١٤٠٨ / ١٩٨٨) ، (٢ / ١٣٨)
(٢) البيان والتحصيل، الطبعة الأولى، تحقيق أحمد الشرقاوي إقبال، ومحمد حجي، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، عام ١٤٠٤ / ١٩٨٤) ، (٨ / ٤٥٧)

<<  <  ج: ص:  >  >>