فدين الإسلام هو الدين الذي رعى الإنسان ورسم له طريق الحياة الآمنة المستقرة، رعاه في ظاهره وباطنه، رعاه في روحه وجسده، رعاه في يقظته وغفلته، رعاه في كل أموره، فشرع له ما يحافظ على مقومات إنسانيته؛ فحفظ له دينه، ونفسه وعرضه، وماله، وعقله من أن يمس إلا بحق، حتى يسير آمناً مطمئناً مستقراً، مؤدياً حق الله عليه وحقوق العباد، دون تقصير أو تهاون، فيسعد وتسعد بسعادته الإنسانية جمعاء.
فالإسلام أوصى بصيانة الأسرار للأمة كلها، وإنما كان الأطباء على رأس الهرم في ذلك؛ نظراً لأن مهمتهم ذات مساس مباشر بكيان الإنسان ذاته، وهي لا تقوم قائمتها إلا إن استقرت لدى الطبيب والمريض أن ما بينهما غير معرض للإفشاء أو الإفضاء، يستوي في ذلك ما كان خيراً أو شراً، أو قبيحاً أو حسناً، أو مشرفاً أو مخجلاً، وبغير هذا تهتز المهنة الطبية وتزلزل زلزالاً عنيفاً، لقد جعل الإسلام من الأخلاق العامة ألا تذكر أخاك في غيابه بما لا يحب، ولو كنت صادقاً، وحتى في الأمور ذات الخطر جعل للحصول على المعلومات ضوابط إجرائية لا ينبغي تجاوزها بدعوى الوصول إلى الحقيقة.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعتلي السور ليتحقق أن رجلاً في بستان داره يشرب الخمر، ويراه كذلك، ولكن الرجل يذكره بأنه تسور عليه والله يقول:{وَلَا تَجَسَّسُوا}[الحجرات: ١٢] ، ولا يملك أمير المؤمنين إلا أن يذعن لشريعة الإسلام، لا غرو إذن وهذه تعاليم الإسلام (العامة) أن تكون التعاليم (الخاصة) التي تحكم المهنة الطبية أقوى أشد؛ فلذا يجب على الأطباء ألا يفشوا الأسرار، وأن يغضوا الأبصار عن المحارم، ولا يهتكوا الأستار.
ولئن قضت سنة الله وعدالته بأن يتقهقر المسلمون عن مركز القيادة والريادة في العالم بتخليهم عن المواصفات والشروط التي فرضها الله عليهم وجعلها شرطاً لنصرهم، لقد صح كذلك أن أوروبا وهي تخرج من عصورها الوسطى المظلمة إلى عصر النهضة إنما فعلت ذلك بفضل حضارة الإسلام التي أقبلت عليها أوروبا وفرط فيها أصحابها الأصليون، وفي غمار الحياة التي كانت تزداد تعقيداً نظروا إلى سر المهنة الطبية كقيمة حضارية، وضرورة إنسانية، فلم يأتمنوا عليها قوة العرف والإلف والتقاليد، وإنما أحاطوها بسياج القانون، وسبق إلى ذلك القانون الفرنسي سنة ألف وثمانمائة وخمس وعشرين، فجعل خرقها جنحة تعاقب بالحبس والغرامة، وانتشر ذلك في كل البلاد.
وقد يظن البعض أن السر الجدير بالصيانة هو ما ينطوي على معلومات سيئة أو مهينة أو مشينة بالنسبة للمريض، وهو ظن خاطئ، وإن شاع، فحفظ المعلومات الخاصة بالمريض هو حفظ مطلق ومقصود لذاته، ولا يلزم إطلاقاً أن يكون المريض قد طلب من الطبيب صراحة ألا يدلي بهذه المعلومات، بل هو سر بطبيعته وبطبيعة المهنة، ولو لم يطلب المريض ذلك.