للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فضل كتمان السر:

إن كان السر مما يقبح ظهوره للناس فهو عورة كما تقدم، وفي حفظه فضل ستر العورة على المسلم، وقد تقدم الحديث: ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) وهو حق من حقوق كل مسلم على أخيه.

وفي السنة في قصة ماعز الذي اعترف بالزنى، فأقام صلى الله عليه وسلم الحد عليه بالرجم، جاء هزال فقال: أنا أمرته أن يأتي فيعترف، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا هزال، لو سترته بثوبك لكان خيراً لك)) (١)

وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: (لو وجدت شارباً لأحببت أن يستره الله، ولو وجدت سارقاً لأحببت أن يستره الله) .

وإن لم يكن السر عورة، فإن المحافظة عليه من كمال المروءة، وكمال الأمانة، وقوة الإرادة.

ومن هنا الحكمة المأثورة: (صدور الأحرار قبور الأسرار) ، فالحر المسيطر على إرادته يموت السر في صدره، أما الذي هو عبد لهواه فإن السر لا يزال يختلج في صدره ويضطرب حتى يفر هارباً.

وحفظ الأسرار على أهل الإيمان من كمال الإيمان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) قال الغزالي: لا شك أنك تنتظر من أخيك أن يستر عورتك، ويسكت عن مساوئك وعيوبك، ولو أنك ظهر لك من أخيك نقيض ما تنتظره إن اشتد غيظك وغضبك عليه، فما أبعدك إذ كنت تنتظر منه ما لا تضمره له ولا تعزم عليه لأجله، وويل لمن يفعل ذلك في نص كتاب الله، حيث يقول في سورة المطففين: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) } (٢) [المطففين: ١-٢-٣] .

وفضل حفظ الأسرار التي في كشفها قبح ومساءة يكون فيه أحياناً معنى إقالة العثرة، والمعونة على استقامة من وقعت منه الزلة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود)) (٣) .

وفي حديث آخر: ((من رأى عورة فسترها، فكأنما أحيا موءودة)) (٤) .

صفات كتمان السر:

الأولى بمن حمل السر لغيره أن يمحوه من قلبه، وأن يوحي إلى نفسه أنه قد أمات ذلك السر، حتى كأنه لم يسمع به، أو سمع به ونسيه، فذلك أدعى إلى أن يخفيه من أن يرى أنه سيبثه في فرصة آتية.

ثم إن سئل عن السر فليتجاهل أنه يعرفه، فإن عزم عليه فرأى أنه إن قال: إنها أمانة ولن أخبر بها اكتفي منه، فليقل ذلك، وإن رأى أن ذلك يزيد السائل ضراوة، ويحفزه على متابعة الكشف، فليترك ذلك القول وليتلمس أن يستعمل المعاريض، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب)) (٥) وروي قول ذلك عن بعض السلف، والتعريض: التورية.

ثم إن لم يتيسر التعريض واضطر إلى الجواب قسراً فقد قال بعض العلماء: إن له أن ينكر، وإن كان حمل السر أمانة أو يخاف على صاحب السر الضرر في نفسه أو أهله أو ماله بغير حق فله أن يكذب، وإن استحلف فله أن يحلف على الكذب، والإثم على من اضطره إلى ذلك بغير حق (٦) .


(١) رواه أبو داود والنسائي والحاكم، وقال: صحيح الإسناد (تخريج أحاديث الإحياء ٥/ ٩٩٩) وانظر الزواجر لابن حجر الهيتمي: ٢/ ١٢٠
(٢) الإحياء: ٥/ ٩٦٠
(٣) المنهاج في شعب الإيمان: ٣/ ٣٦٢
(٤) قال العراقي: رواه أبو داود والنسائي والحاكم من حديث عقبة بن عامر وقال: صحيح الإسناد (شرح إحياء علوم الدين: ٥/ ٢١٦)
(٥) رواه ابن عدي، قال المناوي: في إسناده داود – تركه أبو داود
(٦) الغزالي: إحياء علوم الدين (شرح الإحياء: ٥/ ٢١٦)

<<  <  ج: ص:  >  >>