للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قال ابن حجر الهيتمي: الكذب قد يباح، وقد يجب، والضابط كما في الإحياء: إن كان مقصود محمود لا يمكن التوصل إليه إلا بالكذب فهو مباح وإن كان واجباً وجب، كما لو رأى معصوماً اختفى من ظالم يريد قتله أو إيذاءه، فالكذب هنا واجب، أو سأل الظالم عن وديعة يريد أخذها، فيجب الإنكار، وإن كذب، بل لو استحلفه لزمه الحلف، ويوري، وإلا حنث ولزمته الكفارة، ولو سأله سلطان عن فاحشة وقعت منه سراً، كزنى أو شرب خمر، فله أن يكذب ويقول: ما فعلت، وله أيضاً أن ينكر سر أخيه، ثم قال: ينبغي أن يقابل مفسدة الكذب بالمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت مفسدة الصدق أشد، فله الكذب، وإن كان العكس، أو شك، حرم الكذب.

ثم استشهد لصحة ذلك بحديث الترخيص بالكذب في الحرب، وفي الصلح بين الناس، وفي حديث الرجل زوجته ليرضيها (١)

ولنا فيما قاله الغزالي وأقره ابن حجر الهيتمي توقف، فليست كل مفسدة تترتب على الصدق يستباح بها الكذب، وليس كل مصلحة محمودة تتوقف على الكذب تبيحه، فإنه ما من كاذب إلا ويرى أن في الكذب مصلحة له أو درء مفسدة عنه أو عن غيره، والنبي صلى الله عليه وسلم أخرج كلامه مخرج الحصر عندما قال: ((إن الكذب لا يحل إلا في ثلاث ... )) الحديث. والذي نراه وتقتضيه الأصول أن تكون القاعدة في ذلك: أنه لا يحل الكذب لجلب مصلحة أصلاً ما عدا الحرب، وأما لدرء المفاسد فلا يحل إلا للثلاثة المذكورة في الحديث، أو ما كان مثلها أو أعظم، لا ما كان دونها في العظم. والله أعلم.

وليحذر حامل السر ممن قد يستدرجه لفضاء بمضمون السر من حيث لا يشعر، فإن للناس في ذلك أساليب لا تخفى على ذوي الفطانة.

من يستحق الستر عليه ومن لا يستحق:

قال الحليمي: (الستر هو في الفواحش التي لا تخرج من الملة، فأما إذا سمع مسلماً يتكلم بكلام الكفر، فعرف به أنه من المنافقين، فلا ينبغي أن يستر عليه ... ليعلم المسلمون أنه خارج من جملتهم، ولئلا يغتروا بما يظهره لهم فينكحوه، أو يأكلوا ذبيحته، أو يصلوا خلفه، أو يوصي أحد منهم إليه بولاية أطفاله، ولأن من أظهر الكفر زالت حرمته، فإن الحرمة فيما أوجبنا ستره، إنما كان لدين المتعاطي له، فإذا لم يكن دين فقد زالت العلة، والله أعلم) (٢) .

وواضح أن هذا إنما هو فيما كان من الأسرار من قبيل ستر العورات، أما إن كان من قبيل حمل الأمانة فإن الخيانة لا تجوز، ولو كان من حملك الأمانة زنديقاً، إن التزمت له بحفظها.

لماذا حفظ الأسرار؟

أولاً- لما في كشف السر من الأضرار في أغلب الأحوال:

ولا ينبغي لمسلم أن يسعى فيما فيه ضرر أخيه المسلم، ولا يحل لمسلم أن يتعمد الإضرار بأخيه بغير حق، ولا أن يسعى في أمر يكون سبباً في إيقاع الضرر بأخيه؛ لقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: ٥٨] .


(١) الزواجر لابن حجر الهيتمي: ٢/ ١٨٦، القاهرة، مصطفى الحلبي، ١٣٧٠ هـ
(٢) الحليمي: المنهاج في شعب الإيمان ٣/ ٣٦٤

<<  <  ج: ص:  >  >>