: إن رفع الحرج عن المكلفين من المقاصد الأساسية للتشريع الإسلامي عامة، وله هنا مظاهره الخاصة الكثيرة التي يتعاقب أثرها لتحقيق سمو الشريعة عن أن يكون طابعها الجمود على نمط واحد من التكليف، تأسيساً على أن تلك التكاليف نصبها الشارع الحكيم، بالنسبة للأفراد، لمقصد عام هو:(إخراج المكلف عن داعية هواه حتى يكون عبداً لله اختياراً، كما هو عبد لله اضطراراً) ، وإن المقصد بالنسبة للمجموع هو (إقامة المصالح الدنيوية والأخروية على وجه كلي) ، فهناك نظام كافل للسعادة في الدنيا والآخرة لمن تمسك به، ومطلوب من كل فرد أن ينضوي تحت هذا النظام وينقاد له، لا لهواه.
ولهذا جرت الشريعة الإسلامية في التكليف على الطريق الوسط الأعدل الداخل تحت طاقة الإنسان، من غير مشقة عليه، ولا انحلال لربقة عبوديته لله، وجاءت تكاليفها لتحقيق توازن ينشد غاية الاعتدال في جميع المكلفين.. فإن آل الأمر للميل إلى جهة التشديد بسبب واقع خاص، أو حال متوقعة، عالجت الشريعة ذلك بالرخص الشرعية الدائمة، أو مراعاة ظروف الضرورة الطارئة، ليظل المكلف في جميع أحواله ملتزماً بما نصبه الله من معالم دينه التي لا تغادر صغيرة أو كبيرة من شؤون الحياة إلا وضعت لها أصلاً يرجع إليه، ومعقلاً يلجأ إليه. وهذا غاية الإحسان والإنعام من الله.
والضرورة التي اشتملت الشريعة على كثير من المبادئ لمراعاة ظروفها هي كل ما فيه مشقة بالغة وحرج، وهي الحالة التي تلجئ الإنسان إلى فعل الممنوع عنه شرعاً، أو هي الحالة التي يصير بها الإنسان معرضاً للتلف إن لم يقدم على الممنوع.
ولما كان من خصائص الشريعة الإسلامية رفع الحرج ودفع المشقة، سواء كانت المشقة من النوع غير المقصود للشارع أصلاً، وهي المشقة غير المعتادة، أم من النوع الذي لا يخلو عنه أصل التكليف، لأنها في بعض الظروف تتحول إلى منزلة المشقة غير المعتادة، وهذا التحول ليس واقعاً على طبيعتها، بل هو بحصول سبب اقتضاه. قال القرافي: كل ما حرم لصفته لا يباح إلا بسببه، وهو الاضطرار وفي التعليل الدقيق لإباحة المحظور هنا يقول العز بن عبد السلام: الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها أي للمصلحة المغلوبة بمفسدة راجحة، بناء على أن معظم الأمور تشتمل على مصالح ومفاسد، والعبرة بالراجح منها، ففي حال الضرورة يستفاد من تلك المصلحة النادرة التي أهدر أمرها في الأحوال الطبيعية.