وقد صاغ علماء الشريعة هذا المبدأ بجملة من القواعد المشهورة المتداولة بين المختصين، بل بين غيرهم من طبقات الناس على حد سواء مع شيء من التحريف أو إغفال القيود الواجب مراعاتها.
وقطب الرحى لتلك القواعد هو قول الله تعالى:{فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}[الأنعام: ١٤٥] ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)) ، وقوله فيما أجاب به قوماً سألوه عن أكل الميتة في المخمصة:((فشأنكم بها)) ، وها هي نبذة عن تلك القواعد بتوضيح يسهل استثمارها على الوجه السليم:
(المشقة تجلب التيسير) :
في هذا المبدأ وصف للحال المعهودة من الشريعة الإسلامية السمحة مما تقدمت الإشارة إليه من استهداف التوازن وإعطاء كل ظرف ما يناسبه، وزيادة عما سبق عن الضرورة من بيان توضيح فإن المراد بالمشقة الجالبة لليسر: المشقة التي تجاوز حدود المعتاد، لأن التكليف لا يخلو عن المعتاد منها فهو إلزام ما فيه كلفة، ولو شمل التخفيف جميع التكاليف لكان –كما قال الإمام الشاطبي - نقضاً لما وضعت الشريعة له من إخراج المكلف عن داعية هواه. وضرب من الأمثلة على تسويغ ذلك طلب المعاش بالاحتراف وسائر الصنائع، فإنه مع اعتياده لا يزيل ما فيه من الكلفة.. وأحوال الإنسان كلها كلفة في هذه الدار في أكله وشربه وسائر تصرفاته، ولكن جعل الله له قدرة عليها بحيث تكون تلك التصرفات تحت قهره، لا أن يكون تحت قهرها.
وفي نحو هذا المبدأ الوصفي جاءت قاعدة أخرى مؤكدة هي:
(الأمر إذا ضاق اتسع) :
على أن ثمرة الخاصة التشريعية المعبر عنها بالمبدأين السالفين جاءت في مبدأ مشهور متداول هو:
(الضرورات تبيح المحظورات) :
وقد سبق بيان استمداد هذا المبدأ، وهو ذو غزارة في التطبيقات، وأبرزها يتصل بقضايا التطبيب والعلاج، فإن ممارسة أي من الإجراءات المندرجة فيهما هي في الأصل محظورة ومعتبرة جناية على النفس الإنسانية أو جزء منها، أو تسبباً في إتلافها ولحاق الضرر بها لولا عامل الضرورة الذي تسوغ معه تلك التصرفات وتغدو من باب أداء الواجب أو الفعل المأذون به. ولا مجال لسرد التطبيقات الخاصة بدءاً من إباحة النظر واللمس للعورة عند الاقتضاء، وانتهاء بأعمال المبضع في البدن دون أن ينشأ عنه قصاص أو ضمان.