هذا، وإن مبادئ مراعاة الضرورة هي المظلة الشرعية لكثير من قضايا التطبيب والعلاج، ليس للأفعال وحدها، بل للأشياء المحتاج إليها لإزالة الحالة المرضية التي تتحقق فيها شروط الاضطرار، كالتداوي ببعض المحرمات عند تعين الاستشفاء بها وعدم وجود دواء طاهر حلال يؤدي الغرض، حسب إخبار الطبيب المسلم الثقة في تدينه وخبرته، وذلك إذا لم يسعف تطبيق مبادئ المطهرات التي منها: انقلاب العين الأصلية واستحالة المادة إلى خصائص مادة أخرى. فحينئذ تسوق الضرورة إلى استعمال بعض المواد في العلاج والمداواة، ولو كان محكوماً –في الأحوال الطبيعية- بتحريمها للنجاسة أو لسبب آخر من أسباب الحظر، دون أن ينشأ عن ذلك المساس بمقصد أساسي من مقاصد التشريع. فيباح بالضرورة –عند الفقهاء- التداوي بالمقدار الذي لا يسكر؛ أما المقدار الذي يسكر فتحريمه موضع اتفاق ولو للدواء، لأنه كما يقول الإمام الشافعي، ومذهبه هو الأرحب في هذه المسألة: يمنع من أداء الفرائض ويؤدي إلى فعل المحرمات. ومستند اتفاق الفقهاء على تحريم التداوي بما يسكر هو قول النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر مخاطباً من كان يصفها للدواء:((إنها ليست بدواء)) أما المشمول بحكم الضرورة فهو المقدار الذي لا يسكر، والمعروف أن ما يستعمل في الأدوية من المواد القابلة للإسكار هي مقادير قليلة وفي أوقات متباعدة، ومع هذا يحسن بالمسلم الخروج من مواطن الخلاف، والحرص على الالتزام بالجادة في أمور الدين، ومثل هذا الموقف إذا اتخذ طابعاً جماعياً يجعل المعنيين بصناعة الدواء يذعنون لمراعاته تحت وطأة المصالح الاقتصادية، بعد أن أهدروا مصلحة الدين وحفظ العقل.
وقبل مغادرة الكلام عن هذا المبدأ الهام لا بد من الإشارة إلى إشكال قديم أثير بشأن اعتبار (المرض) حالة ضرورة مسوغة للمحظور على قدم المساواة مع حال (المخمصة) من حيث إن هذه إن لم يتناول فيها الغذاء المحظور أدى ذلك الامتناع إلى التلف يقيناً، لما سن الله من السنن الكونية بزوال الجوع عند تناول الغذاء، أما الدواء المتناول فقد يحصل معه الشفاء أو لا يحصل، فانتفى عنصر اليقين. وقد جاء جواب هذا الإشكال على لسان الإمام السرخسي بأن ما لا طريق إلى معرفته حقيقة ويقيناً يكتفى فيه بغالب الظن. ولا شك أن الظن يقوى بما بلغته طرق التشخيص والعلاج من شأن رفيع، بسبب التطور الزمني واكتشاف كثير من الوسائل الآخذة من اليقين بحظ كبير، بدءاً بالمجهر، ومروراً بالتخطيط والأشعة، إلى ما يكشف عنه العلم من جديد كل يوم.